الاثنين، 13 أبريل 2015

محمود البدوى حدث ذات ليلة







نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان




اللهب الأحمر

أوفدتنى شركة الأراضى الساحلية فى صيف عام .... للإشراف على اصلاح عزبة عبد الرحمن بك المغربى .. ولم تكن معى سيارة خاصة .. وكانت العزبة هناك فى البرارى على مسيرة ثلاثين ميلا من أدكو .. فى تلك الأرض العذراء التى لم تعمل فيها فأس ولم يشقها محراث ..
وركبت السيارة العامة إلى أدكو .. ولما اقتربت منها رأيت منظرا يأخذ بلب المشاهد وبصره .. فقد بدت المنازل السود من بعيد وأحاطت بها المياة كأنها غارقة فى اليم .. وكان السكون والجمال يغمران القرية .. والطيور الحالمة تحلق فوق رءوس المنازل .. وقوارب الصيادين واقفة فى صف طويل .. وقد طوت أشرعتها وألقت مرساها .. فى انتظار عشاق الصيد فى المياه الساكنة ..
وجلست على مقهى صغير خارج القرية منتظرا احدى السيارات الذاهبة إلى دمنهور ..
 وبعد ساعة كنت فى العزبة .. ولم أجد المعاون فقد كان فى التفتيش .. وتناولت كرسيا وجلست على باب المكتب أتطلع إلى الحقول وإلى منازل الفلاحين .. وإلى السواقى والطنابير الدائرة فى المزرعة ..
وجاء المعاون بعد قليل ووراءه اثنان من الفلاحين .. واستقبلنى بترحاب زائد ..
وكان عبد الكريم أفندى على غرار أمثاله من نظار العزب ومعاونيها الذين شاهدتهم من قبل فى رقعة الدلتا .. يرتدى بدلة رمادية فضفاضة .. وقد حشا جيوبه بالأوراق والدفاتر .. وأمسك بيده شمسية .. وإن كان لا يستعملها أبدا .. ووضع على رأسه طربوشا قد أكل نصفه الأعلى التراب .. وذيل أسفله بالعرق .. وقد علق بحذائه الوحل .. واتسخت سترته وقميصه بآثار زيت أو مخلفات طعام .. وكان الرجل فى عقده الخامس .. وليس على وجهه أثر العافية .. وفورة الدم التى تراها فى هؤلاء الذين يعيشون فى الهواء الطلق بين أحضان الطبيعة متمتعين بحرارة الشمس ودفئها .. وما من شك فى أنه قضى شبابه فى المدينة فى عمل آخر لا صلة له بالشمس والهواء ..
وأرانى المعاون سكنى .. وهو دور علوى مكون من ثلاث حجرات ويقع فوق سكنه .. وكان المنزل نظيفا .. والمناظر حوله خلابة .. فسررت به جدا ..
وتناولت الغداء فى بيته وجلسنا بعد الغداء أمام البيت على كراسى من القش .. وجلس حولنا الفلاحون يشكون من انخفاض منسوب المياة فى القنوات .. ومن كثرة الأملاح فى الأرض .. ومن قلة المحصول .. ثم نهضنا وأخذنا نتفقد الأرض وندور فى الحقول .. وكانت زراعات البرسيم هى الغالبة فى تلك المنطقة .. والبرارى الشاسعة الأطراف التى لا يأخذها البصر تحيط بهذا كله .. وكانت العزبة مكونة من اثنى عشر منزلا صغيرا مبنية بالطوب الأحمر .. وحولها زرائب الماشية ومخازن الغلال .. ثم لا شىء بعد ذلك .. لا قرية حولها ولا دسكرة .. وإنما برارى وأرض قفر لم يرن عليها حافر .. ولم تطأها قدم انسان .. وكان الفلاحون يشربون من القنوات ويغسلون .. وشاهدت أكثر من امرأة فى الحقل تعمل مع زوجها .. ورأيت وجوها نضرة .. وبشرات ناصعة البياض لم تلوحها الشمس ..
وجلست على حافة قنطرة أنظر إلى الطيور وهى تعبر فى أسراب جو المزرعة .. وإلى السواقى الدائرة .. وإلى المحاريث النارية وهى تشق الأرض البكر .. حتى أذنت الشمس بالمغيب فمشيت نحو البيت ..
وتعشيت مع المعاون .. وأخذ على مائدة العشاء يحدثنى عن مهندس الزراعة الذى كان قبلى .. وعن قلة الأيدى العاملة فى هذه المنطقة ..
ثم سألنى عن بعض شئونى .. ولما علم أننى غير متزوج قال لى أنه سيرسل احدى الفلاحات فى الصباح لتتولى أمور بيتى .. كما كانت تفعل مع سلفى .. وهى امرأة نظيفة تجيد الطهو ..
وشكرته .. واستأذنته وصعدت إلى شقتى لأنام ..
***
ونمت نوما عميقا .. واستيقظت قبل شروق الشمس على صوت " الطلمبة " فى فناء البيت .. وعلى صياح الديكة .. وسمعت صوتا نسائيا ناعما يتحدث مع الدجاج ويناغيه وهو يلقى له بالطعام ..
وطلعت الشمس وجاءت نبوية .. فأعدت لى افطارا خفيفا .. وأعطيتها المفتاح ونزلت إلى الحقول ..
***
ومرت الأيام وكنت هادئا قرير العين ناعم البال .. مستريحا إلى الحياة فى البيت والمزرعة .. فقد كان العمل يتقدم فى العزبة باضطراد .. وكنا نصلح الأرض البور .. ونجمع المحصول .. ونبيعه ونستقبل الموسم الجديد بقلوب مستبشرة .. وكانت نبوية تعد لى الغداء .. وتترك لى العشاء على المائدة .. لأنها متزوجة وتنتظر عودة زوجها من الحقل .. فكنت أنام فى البيت وحدى .. وكان عبد الكريم أفندى رجلا مريضا محطما .. ولكنه خبير فى الزراعة وشئونها .. وقد تعلم من التجارب التى مرت به كثيرا .. فكنت أستريح إليه وأترك العلم جانبا .. وأخضع فى كثير من الأحيان لآرائه وارشاداته .. وكان لى نعم الصديق والرفيق فى تلك المنطقة النائية البعيدة عن العمران وعن وسائل التسلية ..
وكان متزوجا من سيدة لا تتجاوز الثلاثين ربيعا .. وقد رأيتها أكثر من مرة وأنا نازل على السلم أو عائد من الخارج .. وكانت على ما يبدو وادعة تحب زوجها .. فلم أسمع بينهما عراكا ولا خلافا .. طوال الشهور التى قضيتها فوق مسكنهما ..
وكان عبد الكريم أفندى يدمن الشراب .. وكانت تنتابه أزمات قلبية حادة وقد سقط مرة فى الحقل وحملناه إلى بيته .. وكان يرتعش وقد تفصد جبينه وأطرافه بالعرق ..
وسألته :
ـ ألا نطلب طبيبا من تليفون التفتيش ..؟
فقال وهو يبتسم :
ـ طبيب يجىء إلى هذه المنطقة محال يا أخى .. لا تزعج نفسك فأنا معتاد على هذه النوبات .. وسيمر الحادث بسلام ..
وقد مر الحادث بسلام فعلا .. ورأيته فى صباح اليوم التالى واقفا وسط الحقل ..
وعدت ذات ليلة من الخارج متأخرا .. وصعدت السلم على مهل .. فقد كان الظلام شديدا .. وسمعت وأنا طالع حركة الباب فى الطابق الأول .. ثم صوت زوجة عبد الكريم أفندى وهى تقول فى رقة :
ـ استنى لما أنور لك ..
وانتظرت وطلعت أمامى وبيدها المصباح .. ولاحظت وأنا طالع وراءها أنها تدير رأسها .. وتنظر إلى الوراء بين هنية وأخرى .. وكانت كلما أدارت رأسها رأت نظرى متحولا عنها .. فأخذت تصعد على مهل ..
ولمحت عرضا شعرها .. وقد تدلى فى ضفائر على ظهرها .. وثوبها وقد انقسم نصفين عند سلسلتها الفقرية كأنما انشق بمقطع .. ورأتنى وأنا أنظر إليها فأطرقت برأسى .. وصعدت الدرج متمهلا .. وقد انتابتنى انفعالات جمة ..
ورأيت المصباح يهتز فى يدها وقد توقفت عن السير وقالت وهى تنظر إلى عينى فى خبث واغراء :
ـ اتفضل اطلع قدامى ..
وشربت هذه الاهانة .. وتقدمت وصارت ورائى .. وعند الباب رفعت المصباح .. واهتز اللهب الأحمر وأراق الضوء على وجهها .. فرأيته يشتعل ويتوهج ..
ولم أنم هذه الليلة ..
***
وذات ليلة سمعت طرقا على بابى .. وفتحت الباب فوجدتها واقفة على العتبة فنظرت إليها فى استغراب .. فقالت بهدوء وبصوت كالهمس :
ـ عبد الكريم عاوزك .. لأنه تعبان خالص ..
ونزلت مسرعا .. وكان الرجل يرتعش .. وقد انتابته حمى شديدة .. وظللت بجانبه إلى الصباح .. وكانت بهية زوجته جالسه معنا على كنبة فى الغرفة وكانت تنظر إلىّ من حين إلى حين نظرات صامتة ملتهبة .. وقامت تصنع الشاى فى غرفة مجاورة .. ورأيت اللهب الأحمر يتوهج هناك وبريق الضوء على وجهها وكانت تنظر إلى النار .. ثم تستدير وتستقبلنى بوجهها المتقد .. وخيل لى أن هناك جذوة تشتعل فى قلبها .. وأنها لن تخمد أبدا ..
وفى الصباح الباكر ذهبت إلى التفتيش .. وسألت الناظر عن طبيب ووصفت له حالة المعاون .. فقال لى أنه سيرسل الدكتور مدحت فى صباح اليوم التالى .. وجاء الطبيب وفحص المريض .. وانتحى بى جانبا .. وقال لى :
ـ لا فائدة ترجى .. دعه يأكل ويشرب كما يحب ..
ونزل على ّ الخبر كالصاعقة .. ولكننى مع هذا لم أيأس من رحمة الله وأخذت ألازم الرجل ليلا ونهارا .. وأجىء له بكل دواء ينفعه ..
***
وذات مساء سألتنى بهية :
ـ ما الذى قاله الدكتور ..؟
ـ حمى خفيفة وسيشفى ..
ـ ألم يقل لك شيئا آخر ..؟
ـ أبدا ..
ولاحظت أن وجهها امتقع .. ودخلت على المريض وجلست بجواره أحادثه .. وجاءت بهية وجلست على كنبة قرب النافذة تنظر إلى الحقول والظلام المخيم على القرية .. وتستمع إلى خوار الثيران وحفيف الأشجار المحيطة بالمزرعة .. وكانت تنظر إلىّ بين لحظة وأخرى وتنكس رأسها .. ولم أكن أعرف فى أى شىء تفكر .. وكانت إلى هذه اللحظة من حياتها محتفظة بكل رونقها وكامل فتنتها .. وقد لاحظت من الأيام التى قضيتها معها فى هذا البيت أنها مرحة طروب لا تحزن لأمر .. ولا تشغل نفسها بالتفكير فيما سيكون .. وحسبها الساعة التى هى فيها ..
وكانت تقرأ قراءة خفيفة .. وتسر عندما ترى فى يدى بعض المجلات المصورة .. وكانت تفتح المجلة وتقلبها بين يديها .. فاذا وقعت على صورة امرأة .. سألتنى :
ـ حلوة .. دى ..
فأهز رأسى بالنفى ..
فتقول وهى تنظر إلىّ بجانب عينها :
ـ أمال إيه اللى عاجبك بس ..؟
وكنت أنسحب بسلام .. ولا شك أن طول عشرتى لها قد جعلتنى أفكر فيها وقتا ما .. ولكننى لم أنزل بهذا التفكير إلى مرتبة الدنس قط ..
***
واستيقظ عبد الكريم أفندى ذات يوم وهو شاعر بالتحسن .. وطلب فى ساعة الغداء دجاجة كاملة ..
وسألتنى بهية :
ـ هل سمح له الدكتور بأكل الدجاج ..؟
ـ وكل شىء ..
وأكل الدجاجة .. وفى الليل ارتفعت حرارته إلى حد الخطر .. فبقيت ساهرا بجانبه .. وبعد نصف الليل بقليل نام .. فانسحبت من الغرفة حابسا صوت أقدامى خشية أن يتنبه المريض ..
وعند الباب الخارجى رأيت بهية تمشى من خلفى وبيدها المصباح ..
فقلت لها هامسا :
ـ بلاش تعب .. خليكى معاه ..
ـ لازم أنور لك .. الدنيا كحل ..
وصعدت أمامى .. وعند بسطة السلم وقفت .. وأخذت ذبالة المصباح تتمايل مع الريح .. وأخرجت المفتاح بيد ترتعش ودفعته فى الباب .. وانفتح .. وقالت وأنا داخل :
ـ مش عاوز حاجة ..؟
وهززت رأسى بالنفى ..
فقد جف حلقى وأصبح لسانى لا يقوى على الكلام ورأيتها ترفع المصباح مرة أخرى وتنظر إلى عينى .. ثم تقدمت واقتربت منى وما زالت تقترب حتى التصقت بى ..
وأدارت ذراعها اليمنى حولى وكانت يدها اليسرى لا تزال ممسكة بالمصباح ..
ـ حاسبى النار ..
ـ خلينا نحترق ..
وتحرك الهواء فأطفأ المصباح ..
***
وفى صباح يوم انتهى عبد الكريم .. ودفناه فى مقبرة العزبة .. وسار وراءه أربعة أو خمسة من الفلاحين .. ومع هذا فلم أشهد جنازة صامتة حزينة مثلها فى حياتى .. وعندما رجعت من المقبرة وسرت وحدى مطرق الرأس واجما وسط الحقول .. شاهدت فى الطريق وعلى جوانب الترع والقنوات حميرا .. وأبقارا وكلابا ميتة .. ومتروكة فى العراء .. ولقد انتهت هذه المخلوقات كلها فلم يحس بها إنسان .. كما انتهى المخلوق البشرى الذى واريته التراب اليوم ..
وعندما تهطل الأمطار فى الشتاء وتغمر المياة والسيول المقبرة .. سيذوب الطين والتراب وتنكشف الجثث .. وستحوم العقبان والنسور والصقور الجارحة .. وتأكل من هذه المخلوقات الآدمية كما تأكل الآفات من هذه الحيوانات .. فما أحقر الإنسان ..!!
وانتظرت على جسر الترعة سيارة ذاهبة إلى الإسكندرية أو دمنهور لأمضى الليل هناك .. فما عدت أطيق البيت الرهيب ..
وزحف الليل .. ولم تمر سيارة واحدة فأخذت أجر رجلى إلى البيت جرا وكان الظلام مخيما .. فصعدت فى السلم متثاقلا ودخلت الشقة وجلست قرب النافذة دون أن أخلع ملابسى .. ولا أدرى كم مضى علىّ من الزمن وأنا على هذا الحال .. فقد كنت شارد اللب مضيعاحزينا على الرجل المسكين ..
وتنبهت على نقر خفيف على الباب .. وقمت وفتحته دون أن أشعل المصباح ورأيتها واقفة على العتبة فى الظلام .. وعيناها تبرقان ذلك البريق الذى أشعل النار ..
وقلت لها فى جفاء :
ـ ما الذى جاء بك فى هذه الساعة ..؟
ـ خايفة وحدى ..
ـ ولماذا بقيت فى البيت .. لقد مات الرجل .. ولم يعد لك مكان هنا ..
ـ سأعيش معك ..
ـ أنا .. لقد مت هذا الصباح مع الرجل .. فأرجوك أن تتركينى ..
وبقيت واقفة .. ثم اقتربت منى .. وقالت بصوت ناعم :
ـ زعلان على المرحوم ..
ـ طبعا لقد كان صديقى ..
ـ وأنا زوجة صديقك ويجب عليك أن تحمينى .. ولا أعرف إنسانا فى هذا المكان سواك ..
ووضعت يدها على كتفى مرة أخرى .. ونظرت إلىّ .. ونفذت نظراتها إلى أعماق قلبى .. وأعماق نفسى .. ولا أدرى ما الذى حل بى عندما لامس جسمها جسمى مرة أخرى .. فقد نسيت الموت والمقبرة وكل ما دار بخلدى فى هذا الصباح ..
ولم أعد أفكر إلا فيها وفى الظلام الذى يحتوينا معا .. وهكذا جرفنا مد الحياة الأكبر .. فطوقتها بذراعى .. وكانت تبكى ..
***
ورأيتها ذات يوم تتحدث مع رجل عجوز فى ردهة البيت .. ولمحتنى وأنا أرقى السلم .. ولاحظت أن صوتها ارتفع لتسمعنى الحديث .. وبعد قليل صعدت إلىّ وكانت تمسح دموعها .. وقالت :
ـ خالى .. كان عاوز يخدنى النهاردة ..
ـ ومشى ..؟
ـ أيوه ..
ـ وليه ما رحتيش معاه ..؟
ـ لازم أستنى أربعين المرحوم ..
ورفعت أهدابها .. وأضافت وهى تقترب منى :
ـ ولازم أستقر أنا وانت على حال ..
ـ ازاى ..؟
ـ نجوز ..
وكأنما لدغتنى عقرب .. فانتفضت .. ورأيت أن العاصفة تقترب .. فقابلتها بالصمت .. فقالت :
ـ يعنى سكت ..
ـ أنت عارفة يا بهية أن هذا محال .. وكيف يمكن أن أواجه هؤلاء الفلاحين .. وأعيش معهم .. إننا نصبح مضغة فى الأفواه .. ونفضح أنفسنا .. حرام أن نلوث سمعة الرجل المسكين ..
ورأيت سحنتها تنقلب فجأة .. وضحكت ضحكة مدوية ..
وقالت فى سخرية وعلى وجهها آيات الغضب :
ـ وهل أبقيت للرجل سمعة .. وهل تتصور أن الناس لا يعرفون شيئا مما بيننا .. أنت جبان .. وأجبن من كلب .. عندما كنت زوجة رجل آخر كنت تحوم حولى وتلهبنى بنظراتك .. هل تتصور أننى كنت لا أعرف معنى هذه النظرات .. والآن بعد أن مات الرجل وأصبحت حرة .. ماتت الرغبة فى نفسك .. لأنك كالكلب تحب فقط أن تلغ فى الإناء الذى يشرب منه غيرك .. أسامع .. أنت جبان وقذر ..
ولم أدعها تتم كلامها .. وتحت تأثير الغضب صفعتها .. فصرخت وأطبقت أسنانها فى لحمى .. وأنهلت عليها ضربا فى عنف .. ثم تراجعت وتركتها .. وارتمت على الكرسى ..
وتحركت فى هدوء ونزلت إلى شقتها ..
وبقيت ساهرا لا أبرح مكانى وقد دارت فى رأسى دوامة من الخواطر المروعة .. وتنبهت على صوت حاد مزق سكون الليل .. فهرولت نحو النافذة المطلة على الفناء .. فرأيت اللهب الأحمر يشتعل هناك .. ولم أرها هى فجن جنونى وهبطت الدرج مسرعا .. ودفعت الباب وأبصرت بها فى المطبخ وقد علقت بثوبها النار ..
ومزقت الثوب وألقيت عليها بطانية وحملتها بين ذراعى إلى الفراش ولم أسألها عما حدث .. وأحسست بيدها وهى تمسك بيدى وتضغط عليها ..
لقد شوهت النار جسمها .. ولكنها طهرته من الدنس ..
=========================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان بالعددين الصادرين فى 22 و 23 /8/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة " سنة 1953
==========================


     





















بنسيون منيرفا

     اشتغلت فى أول عهدى بالحياة فى شركة الحاج عبد الصمد للتجارة والملاحة الدولية بالسويس ..
      وكان الحاج عبد الصمد هذا أميا لايقرأ ولا يكتب ، ولكنه يحمل فى رأسه عقل " شاخت " ..
      وكان متعهد جميع البواخر التى تمر بمدينة السويس ، يفرغ منها البضائع ويمونها بالأغذية والأطعمة المجففة ، وكنا نعمل فى الميناء من الصباح إلى المساء ، ونظل نتعهد الباخرة حتى ترفع السلم وتدور محركاتها وتنطلق فى عرض البحر ..
     وكنت شغوفا بهذا العمل مرتاحا إليه .. لأننى اختبرت فى خلاله الحياة والناس عن قرب ، فقد كنت أصعد على ظهر المركب واختلط بالركاب وأشاهد ألوفا مختلفة من الناس من كل جنس ولون .. ولقد أصبحت لطول اختبارى أستطيع أن أميز الإنجليزى من الأمريكى من الفرنسى من الهولاندى من الصينى .. دون أن ينطق بحرف .. فلكل من هؤلاء خصائصه التى تتميز بها الشعوب ..
     وكنت أفرغ من العمـل فى السـاعة التاسعة مساء .. وأجلس فى
مشرب من مشارب الجعة لأتعشى .. ثم أذهب إلى البنسيون الذى أقيم
فيه ، وكان يسمى بنسيون " منـيرفا " وهو بنسيون صغير فى قلب المدينة ، وكنت أسكن مع أسرة أجنبية ، واخترت غرفة منعزلة لها باب داخل البنسيون وآخر مستقل .. وكانت الأسرة تؤجر ثلاث غرف أخرى لبعض النزلاء .. كانت مؤجرة غرفة لشخص يدعى محروس أفندى وكان قصير القامة ، ناحل الجسم لا يزن أكثر من ثمانين رطلا ، ولكنه استعاض عن هذا النقص بما يكمله ، فقد كانت له زوجه فى حجم الفيل .. وقد جاءت هذه الزوجة من بور سعيد لتزوره فقط لأن إقامة زوجها فى السويس كانت مؤقته .. ولكنها استطابت الحياة فى البنسيون فبقيت شهرا وشهرين وثلاثة .. وقد أخذت هذه الزوجة منذ الاسبوع الأول من سكناى تغازلنى بشكل مفضوح ..! ولم يكن وقتى وعملى يتسعان للحياة العابثة إطلاقا ، فكنت أقابل مغازلاتها بإعراض وصدود ، ولكنها مع هذا لم تيأس واستمرت فى هجومها ، وكانت صاحبة البنسيون أرملة فى الخمسين من عمرها .. ولها بنتان ، واحدة متزوجة وتقيـم فى بور توفيق .. وأخرى دون العشرين بقليل وتقيم معها .. واسمها لندا .. وكانت لندا جميلة تجيد العزف على البيان ..
    وكان هناك عجوز لا عمل له يشغل غرفة من الغرف ، وكان يتكلم كل لغات الأرض ، فقد كان قبطانا فى الميناء ، وكان دائم القعود فى البيت ، يدخن ويسكر ، وينطلق لسانه بكلام لامعنى له عن حرية الشعوب ، وحرية الملاحة فى البحار ، وعن الرجال الأفذاذ الذين نسيهم التاريخ ..
      وكانت هناك سيدة إنجليزية تشغل غرفة صغيرة فى الطرقة ، وكانت تعمـل فى شركة من شركات البترول ، ولم يكن جميلة ولا قبيحة ، وكانت مغرمة بالشراب ، تشرب الويسكى على الريق ..
     وكنا نجتمع فى يوم الأحد ، وهو يوم الراحة لنا جميعا على المائدة ونتغدى ونشرب ونتحدث .. ونستمع بعد الغداء إلى لندا وهى تعزف على البيان ، وإلى غناء القبطان وإلى حديث السيدة الإنجليزية عن الحياة فيما وراء البحـار ، وكان القبطان يغنى أغنية واحدة بالإيطالية ويكررها ، وكان صوته قبيحا ، وكانت معانى الأغنية السامية تبتذل من طريقته فى الالقاء ، ومن صوته الكريه .. وكان يخيل إلينا أنه يخص لندا وحدها بالغزل والغناء ، وكان إذا فرغ من الغناء ابتعد عن المجلس وجلس فى ركن مظلم من الردهة يدخن ويحدق فى الفتاة ويضع رأسه على راحته ويفكر ..
     وكانت لندا تحادث الجالسين جميعا فى مرح وغبطة إلا هو ، فإذا وجه إليها كلاما امتقع وجهها وردت عليه فى جفاء ظاهر .. وكانت زوجة محروس أفندى أكثر نزلاء البنسيون مرحا وسرورا بهذا اليوم ، وكانت تطبخ لنا الأرز بالسمك .. وتضع أمامى الطبق وتسألنى رأيى .. وكنت أتعمد إغاظتها وأقول لها أنه ردىء .. وإننى أكلت أحسن منه فى الكازينو ، فكانت تزم شفتيها وتصمت حتى نفرغ من الطعام .. وكان زوجها يشتغـل فى الجـمرك ، ويعمل أسبوعا فى الليل وأسبوعا فى النهار .. وكانت حجرتها ملاصقة لحجرتى ، وبيننا باب مغلق وراءه دولاب صغير للملابس من السهل أن تحركه من مكانه . فكنت خلال الأسبوع الذى يتغيب فيه زوجها ، أخشى أن تدفعها الرغبة إلى فتح الباب ، والتسلل إلى غرفتى فى ظلام الليل .. ولم أكن أشعر نحوها بأى عاطفة مما يحسه الرجل نحو المرأة .. كنت صغيرا لم أتجاوز الثامنة عشرة من عمرى ، وكان العمل المرهق يستغرق كل وقتى وكل طاقتى .. وكنت أعود إلى البيت تعبا وأستغرق فى نوم عميق ولا أحس بشىء مما حولى إلى الصباح ..
     وكانت المرأة تلاحقنى وتتقصى أخبارى .. وعجبت إذ رأيتها بعد أسبوع واحد من نزولى فى البنسيون قد عرفت كل شىء عنى .. عرفت من أين جئت ، وأين أشتغـل ، وما هو أجرى ، والمطعم الذى أتغدى فيه .. والمشرب الذى أشرب فيـه الجعة ، والحلاق الذى يقص لى شعرى .. وقد أبغضتها لهذا الفضول ..
     وكانت الإنجليزية تعـود إلى البنسـيون متأخرة فى الليل مثلى ..
كانت تسهر فى نادى الشركة ، وكانت غرفتى كمـا وصفت مستقلة
ولها باب على السلم ، وكنت أدخل البنسيون بمفتاح معى من الباب الكبير ، لأننى لا أستطيع أن أمر على غرفة محروس أفندى وزوجته ..
     واستيقظت ذات ليلة على نقر خفيف على الباب .. فتصورت أن زوجة محروس أفندى تنقر على الباب الذى بينى وبينها .. فتناومت ، وعاد النقر من جـديد .. وتسمعت وتبينت أنه على باب الغرفة الخارجى .. فنهضت وفتحت الباب .. فألفيت السيدة الإنجليزية على العتبة .. وقالت :
     " أرجو المعذرة لإزعاجك .. فقد طرقت باب البنسيون فلم يرد علىَّ أحد .. ولا أحب أن أزعجهم أكثر من ذلك .. فتكرم علىَّ بالمفتاح الذى معك " ..
     فتركتها واقفة فى مدخل الباب وأخذت أبحث عن المفتاح فى المكان الذى اعتدت أن أضعه فيه .. وطال بحثى ..
     فقالت لى بصوت رقيق :
     ـ ألا تجده ..؟
     ـ آسف يا سيدتى .. تفضلى قليلا بالجلوس إلى أن أعثر عليه ..
     ودخلت وجلست على كرسى قريب من الباب .. وبحثت فى كل جيوبى وفى كل الأدراج ، فلم أعثر على المفتاح ..
     وقلت لها بعد اليأس :
     ـ سأقرع أنا الباب ..
     فقالت بلهجة مؤكدة :
     ـ لا داعى لذلك يا اسماعيل أفندى .. وإن فعلت هذا سأذهب إلى أى فندق ..
     ووقفت حائرا .. وسمعتها تقول :
     ـ سأنام على هذا الكرسى .. إلى الصباح ..
     فقلت لها :
     ـ بل أنا الذى سينام عليه ..
     وطال حوارنا .. وأخيرا رضيت بأن تحتل مكانى وأطفأت النور .. وأغلقت عينى .. وأحسست بها وهى تخلع ملابسها فى الظلام .. ثم ذهبت إلى السرير .. ومضت فترة طويلة ، وكان الظلام والسكون يخيمان على جو الغرفة .. ثم شعرت بها تتقلب على السرير ونزلت من فوقه فى هدوء .. واقتربت منى .. وشممت من فمها رائحة الخمر ..
***  
     وفى يوم الأحد جلسنا جميعا حول مائدة الغداء .. فنظرت إلىَّ زوجة محروس أفندى وقالت :
     ـ كان فيه حرامى بيخبط عليك أول امبارح بالليل يا إسمـاعيل
أفندى ..
     ـ حرامى ..؟
     ـ أيوه .. حرامى ..
     ـ محستش بحاجة ..
     ـ لازم أنا كنت بحلم ..
     ونظرت إلىَّ وإلى الإنجـليزية فى خبث .. واتجهـت إلينا جميع الأنظار ..
***   
     وكان القبطان لايزال متيما بابنة صاحبة البنسيون ويكاد يجن بها ..
     وفى غروب يوم من أيام الصيف دخلت الفتاة الحمام لتستحم .. وكانت تتصور أن الجميع فى الخارج .. فتركت باب الحمام مفتوحا ، ووقفت تحت الدش وأخذت تغنى ..
     وسمعها القبطان وكان فى غرفته وقد أغلق عليه بابه .. وخرج إليها فى هدوء يتلصص حتى دخل عليها الحمام وهى عارية .. وصرخت الفتاة .. وجـاء على صوتها جميع سكان العمارة وأخذوا يضربون الرجل .. وكان أكثرهم ضربا له زوجة محروس أفندى ..!
====================================  
نشرت القصة فى صحيفة الزمان 15/8/1950 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " حدث ذات ليلة " سنة 1953

==============================================================






















المعجزة

  
      كانت هند طريحة الفراش منذ تسعة شهور ، استيقظت ذات صباح فوجدت نفسها لاتستطيع أن تنهض من سريرها ، لقد أصيبت بالشلل النصفى على إثر صراع نفسى جبار استمر سنوات  وأحزان قاتلة هدت كيانها ..
     كانت تعتقد أنها دميمة قبيحة الصورة لاتصلح للرجال ولايحبها إنسان .. وقد رسخ هذا الاعتقاد فى نفسها منذ الطفولة وكبر مع الأيام .. كانت أمها تقول لها وهى صغيرة تلك الكلمة القاتلة " يا وحشة " كانت تسمع منها هذه الكلمة فى اليوم عشرين مرة .. فرسخت الكلمة فى أعماقها واستقرت فى طوايا نفسها ، فنشأت مريضة حزينة منطوية .
     ولما كبرت رأت أختيها الصغيرتين تتزوجان قبلها وبقيت هى فى المنزل لايتقدم لها أحد حتى تعدت سن الزواج . وكانت تتصور أن جميع من فى البيت يكرهونها لهذا السبب ، وزادت أحزانها وآلامها .. وانفجر شريان غضبها أخيرا فأصيبت بالشلل ..
     وأحضر لها أبوها أبرع الأطباء فى المدينة ، ودخلت كل المصحات وطافت بالأضرحة ، ونذرت لها النذور ، ولكن دون جدوى ..
     ولجأت أمها ـ بعد أن تطرق إلى قلبها اليأس ـ إلى الدجالين ، فكانوا يكتبون لها الأحجبة والطلاسم والألغاز .. وأخذت تطلق البخور فى حجرة ابنتها لتطرد الشياطين .. وتنتظر الفرج من ملائكة الرحمة ..
     وكانت الفتاة بعد الحادث الذى نزل قد زهدت فى كل شىء .. فى الحياة .. وقد علمتها الشهور الطويلة التى قضتها فى الفراش التأمل .. والقراءة .. فكانت تطلب الكتب وتقرأ .. وتقرأ وتفكر .. وقد خرج بها الألم عن الدائرة الضيقة التى كانت تعيش فيها من قبل ، فأصبحت إنسانية النزعة تتألم لآلام الناس وتشاركهم عواطفهم ..
     وكان أبوها يسير أصيل يوم فى أحد شوارع القاهرة ، فلمح لافتة صغيرة تشير إلى طبيب نفسانى .. ومع أنه لم يسمع به من قبل ولم يحدثه أحد عنه ولكنه صعد إليه .. واستقبله الطبيب مرحبا .. فقد كانت العيادة خالية تقريبا من المرضى ، وتحدث الأب عن فتاته المريضة ..
     فقال الدكتور وهو يبتسم :
     ـ قبل كل شىء سنشرب القهوة لأن جلستنا ستطول..
     وشرب القهوة .. وقال الدكتور وهو يفتح دفتر مذكراته :
     ـ أنا على استعداد لأن أذهب معك إلى البيت الآن وأرى المريضة ، ولكنى أود قبل هذا أن أعرف كل شىء عنها .. فأسرد علىّ سيرتها من الطفولة إلى الآن ، وحاول أن تتذكر كل شىء فإن ذلك من الأهمية بمكان ..
     وتحدث الأب واستمع اليه الطبيب ساعة كاملة ، ثم ركب عربة إلى البيت ، ودخل الطبيب على المريضة واستقبلها بوجهه الضاحك ، وأخذ يوجه اليها بعض الأسئلة ويشيع الطمأنينة فى نفسها ..
     واستراحت اليه الفتاة كثيرا على خلاف من سبقه من الأطباء ..
     ثم استأذن وأخذ طريقه إلى الخارج .. وسأله الأب فى لهفة :
     ـ أين الروشته يا دكتور ؟
     ـ ليس بابنتك أى شىء ..
     ألا تصف لها دواء ؟
     ـ أنا لاأعالج بالسموم .. وسأعالجها على طريقتى .. وسترى نتيجة ذلك قريبا ..
     ـ وستشفى ؟
     ـ بإذن الله .. ما فى شك ..
     ونظر إليه الرجل بين مصدق ومكذب .. ودفع يده فى جيبه ليخرج المحفظة ويدفع الأتعاب .. فقال له الطبيب وهو يربت على كتفه :
     ـ دع هذا الآن .. وسأحضر غدا فى مثل هذه الساعة ..
     وفى اليوم التالى جاء الطبيب ومكث مع الفتاة أكثر من ساعة يحادثها فى مختلف الشئون ، ولم يجر ذكر المرض على لسانه قط ، فعجب الأب لهذا الطبيب المعتوه ..
     وفى صباح يوم جميل حمل البريد إلى الفتاة رسالة ففضتها وهى تعتقد أنها من احدى صاحباتها ، ولكنها عجبت بعد قراءة سطرين منها إذ وجدتها بخط رجل يبثها غرامه .. ويقول انه جارها ويسكن فى الشارع الذى تقيم فيه .. وأنه رآها أكثر من مرة فى شرفتها ولكنها كانت فى شغل عنه فلم تلتفت اليه مرة واحدة .. وأنه لم يرها منذ شهور فى الشرفة أو فى النافذة فهل هى مسافرة أو مريضة ؟ إنه يود أن يعرف لأنه قلق .. ولأنه معذب ولأنه متيم بها ..
     وقرأت الرسالة مرة ومرات وتورد وجهها .. وكانت عندها خادمة تحبها وتثق فيها فطلبت منها أن تضع الرسالة فى خزانة ملابسها ففعلت ..
     وبعد يومين جاءتها رسالة ثانية .. فقرأتها فى لهفة .. وكانت أشد عنفا إذ كتبها بدم قلبه .. ثم تدفقت عليها الرسائل بعد ذلك .. وكان الطبيب فى خلال تلك المدة يزورها ، ويلاحظ التغير الذى طرأ على نفسها وجسمها .. فيسر لذلك ..
     وحملت إليها الخادمة رسالة معطرة من حبيبها المجهول ..
     وقال لها فيها إنه عرف رقم تليفون منزلها بعد أن عرف اسم والدها من البواب .. وإنه سيطلبها الليلة فى التليفون الساعة العاشرة مساء ويرجو أن تكون وحدها ..
     ومن غروب الشمس كانت آلة التليفون بجوار سريرها ، وفى الساعة العاشرة دق الجرس .. فرفعت السماعة وظلت ممسكة بها برهة وقلبها يخفق خفقان الطائر المذبوح .. ثم قربت السماعة من أذنها وجاءها صوته من وراء الأبعاد .. وأخذ يتحدث .. وكانت هى تستمع فى نشوة وقد عقد الخجل لسانها .. ثم تشجعت وأسمعته صوتها .. ورأته يسر لذلك ويتدفق فى الحديث كالسيل ..
     ووضعت السماعة وأحست بشىء جديد يسرى فى كيانها ، وبالدم يتدفق فى عروقها .. ويسرى فى جسمها كله حتى فى نصفها المشلول ، وكان خداها فى حمرة الورد .. وكانت عيناها تلمعان ببريق غريب .. بريق الحياة التى أخذت تدب فى جسمها ..
     وظلت تحلم أحلام اليقظة إلى ساعة متأخرة من الليل ..
     وأخذ بعد ذلك يحادثها فى التليفون كل يوم .. وكانت تطلب من خادمتها أن تغلق عليها الباب وتظل تتحدث معه ساعة وأكثر .. وكان إذا تصادف وخرج أهلها للتنزه وبقيت وحدها مع خادمتها ودق جرس التليفون كانت تشعر بسعادة غامرة لأنها تستطيع أن تحادثه بحرية ولمدة أطول وأطول .. وكانت قد ألفت صوته واستراحت إليه وازداد تعلقها به .
     وذات مرة قال لها :
     ـ عاوز أشوفك ..
     ـ صحيح ..؟
     ـ والنبى ..
     ـ فين..؟
     ـ فى أى مكان تحبينه ..
     ـ لكن أنا مبخرجش ..
     ـ أبدا ..؟
     ـ أبدا..
     ـ طيب ..
     ووضعت السماعة وبكت ..
     وفى اليوم التالى حادثها وقال لها :
     ـ أنا زعلان منك ..
     ـ ليه ..؟
     ـ مررت تحت البيت فلم أرك ..
     ـ والله فيه عذر قوى .. وأنا معذورة ..
     ـ بكرة سأمر .. ولازم أشوفك ..
     ـ سأحاول ..
     ووضعت السماعة .. ولكنها لم تبك بل أحست بشىء يعمل فى داخل نفسها .. وبقوة دافقة تسرى فى كيانها ..
     وقبل الموعد بساعات طلبت خادمتها وأخذت تتزين ، والبستها الخادمة أحسن أثوابها .. وقربت منها المرآة .. فأخذت تنظر فى وجهها طويلا .. وتصفف شعرها ، ولاحظت التغيير الذى طرأ عليها ، ورضيت وابتسمت .. وصرفت الخادمة ولما اقترب الموعد خيل اليها أنها تسمع صوته يناديها فتحركت من فوق السرير ووجدت نفسها لأول مرة فى حياتها تحرك رجليها .. وأنزلتهما برفق وقد غمرتها فرحة عارمة ونزلت على الأرض وتماسكت واستمرت واقفة وحلت المعجزة ومشت فى أرض الغرفة نحو الشرفة ..
     واستندت على الحاجز ، ورأته هناك فى الجهة المقابلة من الشارع ولوح لها بمنديله الأبيض كإشارة للتعارف كما اتفقا .. وظلت متماسكة تنظر اليه فى سرور ..
     ورأت الخادمة سيدتها واقفة فصاحت :
     ـ شوفو ستى .. شوفو .. ستى ..
     ورأت الأم ابنتها واقفة فى الشرفة .. فجرت نحوها ، وارتمت هند على صدرها وأخذت تبكى .. بكاء الفرح ..
     وبعد ذلك بساعة كان الطبيب جالسا فى مكتبه يسجل فى دفتر مذكراته ..
               إنتهى العلاج وحدثت المعجزة 
===================================  
نشرت القصة فى صحيفة الزمان المصرية 1|12|1952 وأعيد نشرها بمجموعة حدث ذات ليلة 1953 لمحمود البدوى









ليلة رهيبة

حدث هذا منذ سنوات وكنت قد سافرت فى مهمة إلى قرية من قرى مركز أسيوط وعدت من القرية متأخرا فى الليل إلى المدينة ..
وبحثت فى الفنادق المحيطة بالمحطة عن غرفة فلم أجد .. فاضطررت إلى أن أسير على قدمى إلى قلب المدينة عسى أن أعثر على غرفة فى أى فندق هناك ..
وكنت تعبا منهوك القوى .. وقد أمضيت النهار كله فى منازعات مع الفلاحين وكل واحد منهم يريد أن أترك له ربع الإيجار لأن زراعته فسدت وغيطه أكله الدود .. ومع أن العزبة ملك أخى والأمر كله ليس بيدى فقد كنت أشفق على هؤلاء المساكين .. وأتنازل لهم عن جزء كبير من الإيجار فعلا ..
ومع أنهم احتفوا بى وأجلسونى فى ظل عريشة وفرشوا لى " حراما " ووضعوا وراء ظهرى وسادة من القطن .. ولكن الشمس الحامية أفسدت كل شىء .. فقد كان البخار الملتهب يتصاعد من شقوق الأرض والغبار المتطاير من أرجل الدواب فى الطريق يسد الأنوف .. وعندما ودعتهم فى طرف الحقل وركبت السيارة العمومية التى أخذت ترض جسمى وتحطم أعصابى ساعة كاملة من الزمان كنت فى حالة يرثى لها ..
 وبلغت المدينة وأنا فى أشد حالات التعب ..
ولهذا أخذت أبحث عن غرفة بأى سبيل لأريح جسمى بعد هذه المشقة .. ووجدت غرفة فى فندق حقير قذر فى شارع " القيسارية " ولكنها كانت غرفة مشتركة .. غرفة بسريرين وشغل أحد النزلاء الغرفة قبلى .. ونام على سرير فيها .. فكيف أنام مع شخص غريب وفى جيبى مبلغ كبير من المال .. وقفت فى مدخل الفندق مترددا ..
وقال لى الخادم وهو يفرك عينيه :
ـ لن تجد غير هذا السرير فى المدينة كلها .. فنحن فى موسم القطن والفنادق مزدحمة بالفلاحين ..
وكان الفندق رهيبا .. ومنظر الخدم لا يبعث على الاطمئنان .. ومع أن الساعة لم تتجاوز العاشرة مساء .. والوقت صيف .. فقد كان السكون الموحش يخيم على المكان .. وكانت ممرات الفندق قذرة وآثار أقدام النزلاء بادية على البلاط .. وكانت الإضاءة ضعيفة للغاية .. كان هناك مصباح كهربائى صغير يلقى ضوءا خافتا على الطرقة الطويلة .. وتركت الممرات الجانبية من غير إضاءة إطلاقا ..
وكانت الطرقة ملتوية مقبضة والسائر فيها يتملكه الخوف من شىء مجهول .. وكان منظر الخادم نفسه يبعث على الرهبة فقد كان مجدور الوجه مفرطح الجبهة ضيق العينين لئيم السحنة ..
وقلت لنفسى لا بد مما ليس منه بد .. وسأقضى الليل ساهرا .. ومشيت وراء الخادم إلى الغرفة وفتح الباب وأضاء المصباح .. ودخلت وراءه .. وكان أول شىء وجهت له اهتمامى هو الرجل الآخر الذى شغل الغرفة قبلى وكان نائما على السرير ووجهه إلى الحائط فلم أتبين ملامحه ..
وتركنى الخادم وأخذت أخلع ملابسى فى حذر شديد مخافة أن يستيقظ الرجل النائم .. وخلعت بدلتى ولبست جلبابى ونظرى لا يتحول عن الرجل ..
وكان ضخم الجسم .. عريض المنكبين .. وقد شغل جسمه السرير كله .. وبينما كنت أخرج محفظتى الجلدية من جيب سترتى وأضعها تحت " المخدة " رأيت الرجل يتحرك ثم استدار واستقبلنى بوجهه .. وأخذ ينظر إلىّ أكثر من عشرين ثانية نظرات ينخلع لها قلب الشجاع .. ورأيت سحنة رجل رهيب .. يطل الشر من عينيه وكل جارحة فى وجهه الأغبر .. فوقفت فى مكانى جامدا كالمشلول .. ثم تحركت دون وعى نحو سريرى .. وتمددت عليه .. وضغطت برأسى على المخدة .. ورأيت أن أترك النور بعض الوقت لتعود أوصالى المرتعدة إلى سكينتها ..
ثم لمحت وأنا ممدد على السرير ـ صرة ـ كنت قد وضعتها على الطاولة وأنا داخل .. وأنسانى الخوف والتعب ما بها .. وكان بها طعام قدمه لى بعض الفلاحين وأنا راكب السيارة لأتعشى به فى الطريق .. ولكننى لم أذقه .. وحملته معى إلى الفندق ..
ونهضت وفتحت الصرة ووضعت الطعام على الطاولة ..
وجلست لآكل ورأيت الرجل ينظر إلى الطعام .. فدعوته .. فرفض أولا وقال إنه تعشى .. ولكنى لما ألححت بشدة نهض وشاركنى طعامى ..
وسألنى وهو يأكل :
ـ إسم الكريم ..؟
ـ مصطفى ..
ـ منين ..؟
ـ من مصر ..
ـ بالجودة ..
ثم سأل وهو يحدق فى وجهى :
ـ جاى لمأمورية ..
ـ كنت بازور نسايبى فى العوامر ..
وذكرت له اسم أسرة أعرفها بقوة جبروتها ورجالها الأشداء ..
فنظر إلىّ طويلا ولم ينبس .. ثم لما أخذ كفايته من الطعام مشى إلى قلة موضوعة على نضد من الرخام فى الغرفة .. ورفعها إلى فمه ورجع إلى سريره لينام ..
***
وأطفأت المصباح .. وتمددت على سريرى .. وضرب الظلام برواقه ولم تعد عيناى تبصران شيئا فى داخل الغرفة ..
ثم بدت خيوط ضئيلة من النور تدخل الغرفة من النافذة المفتوحة على المنور .. ومن شراعة الباب العليا التى تطل على الطرقة وظللت ساهرا .. وعيناى على سقف الحجرة .. وسمعت سرير الرجل يطقطق .. فاشتدت ضربات قلبى وتوجست الشر .. ورأيت ذراعه ترتفع فى الظلام وتضرب شيئا .. ثم تبينت أنه يذب البعوض عن وجهه .. فتظاهرت بالنوم وكتمت أنفاسى .. وتحرك مرة أخرى وطقطق السرير .. ثم رأيته يستوى جالسا .. ونزل من فوق السرير ومشى فى أرض الغرفة قليلا كأنه يبحث عن شىء ..
ثم اقترب من سريرى .. وفى هذه اللحظة .. شعرت بأنفاسى تقف فى حلقى .. وبقلبى يكف عن الخفق .. وبالعرق يتفصد على جبينى وأغمضت عينى ..
وسمعته يقول :
ـ معاك كبريت ..؟
وحاولت أن أتكلم فخاننى صوتى ..
أشرت بذراعى إلى الطاولة .. فاقترب منها وأشعل سيجارة وعاد إلى سريره واضطجع .. وأخذ يدخن .. وهو صامت .. ولما فرغ من التدخين وضع رأسه على المخدة ..
وقضيت ليلة رهيبة .. ولم يغمض لى فيها جفن .. ولم يستقر لى مضجع .. وكان النوم يأخذنى أحيانا بضع ثوان فقط ثم أهب مذعورا وأنظر إلى الرجل فإذا وجدته مكانه على السرير .. أضع رأسى على الوسادة وأحاول أن أغفو لحظات ولكن هيهات .. وكنت أتحسس المحفظة من وقت لآخر .. وأقرأ القرآن فى سرى وأتشهد .. وأنذر النذور لأولياء الله الصالحين ..
وفى الصباح وقبل طلوع الشمس تركت الفندق .. وذهبت إلى سوهاج فى عمل لى ومضيت فيها أسبوعا .. ثم ركبت منها قطار الصباح السريع عائدا إلى القاهرة ..
وعندما وقف القطار فى محطة ملوى .. رأيت جمعا غفيرا فى المحطة .. وهرجا وبوليسا مدججا بالسلاح .. ورأيت رجلا يتقدم على الرصيف وحوله كتيبة من الجند .. وكان مقيدا بالحديد ولكنه كان يمشى منتصب القامة شامخ الأنف .. وعندما اقترب منى نظرت إليه مأخوذا وصعقت ..
لقد كان صاحبى الذى قضيت معه الليلة الرهيبة فى الفندق ..
ولما مر تحت عربتى لمحنى وأنا أطل من النافذة فتوقف لحظة .. ولمعت على فمه ابتسامة خفيفة .. ثم تابع سيره .. وأركبوه القطار ..
وسألت أحد الواقفين على الرصيف :
ـ من هذا ..؟
ـ إنه إسماعيل الأشرم القاتل المشهور ..
وغاص قلبى بين ضلوعى .. وأخذت أسأل نفسى .. لماذا لم يقتلنى الرجل .. وقد قضيت معه ليلة بطولها وحدى ومعى مبلغ كبير من المال .. وأنا أعزل من كل سلاح .. لماذا ..؟ ألأنى أطعمته من طعامى .. وأكل معى العيش والملح ..؟
ما أعجب خلق هؤلاء الأشرار ..!!
======================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان بتاريخ 1/8/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة " سنة 1953
========================
























حلاق للسيدات

     كان ميخاليدس حلاقا يونانيا مشهورا فى شارع سليمان باشا ، وكان حانوته ملتقى السيدات المصريات والأجنبيات الأنيقات فى المجتمع ، ومن الساعة السادسة مساء لاتجد فى محله كرسيا خاليا ..
     وغالبا ما تجد سيدة أو أكثر جالسة فى مدخل الحانوت فى انتظار دورها ، وتصافح أنفك وأنت مار فى هذا الشارع وعلى بعد ثلاث خطوات من الحانوت رائحة العطور العبقة ، وتسمع حوار السيدات الممتع ، وحركة المراوح الكهربائية وصوت آلات التجميل ، وهى تصلح ما أفسده الدهر ..!
     وترى السيدات يخرجن من " الصالون " إلى المراقص والملاهى الليلية وهن يبهرن الأبصار ..
     وكانت زينات هانم من " زبائن " هذا الحلاق " الدائمات " كانت تأتى إليه مرتين فى الأسبوع على الأقل لتتزين ، وكانت من الثريات وزوجها عضو مجلس إدارة فى أكبر بنك فى المدينة ، وفى أربع شركات كبرى ، ومع أنه لايتمتع بذهن اقتصادى ، ولا بعقل جبار ، ولا بشىء يؤهله لهذه المناصب فقد غدا من كبار رجال الأعمال .. وهكذا تجرى الحظوظ والأقدار ..
     وكانت زينات هانم تعيش معه فى شبه عزلة ولا تراه إلا قليلا ، فقد كان عمله يستغرق كل وقته وكل جهده .. وكانت قد تجاوزت سن الأربعين بكثير واقتربت من سن اليأس عند المرأة ، وفى هذه السن تبدو المرأة عصبية قلقة مضطربة ، ولهذا كانت تذهب إلى الحلاق وتجلس على الكرسى الضخم ، وهى فى أشد حالات القلق والتوتر العصبى ..
     وكان صاحب المحل يستقبلها مرحبا محنيا ظهره مقدما إليها أحسن عماله ، ولكنها كانت تستقبل العامل المسكين بوجه عابس ، وإذا فرغ من " التسريحة " ولاحظت أنها لاتوافق مزاجها واستدارة وجهها نظرت إليه شزرا وأخذت تسبه ، وكان صاحب الحانوت يستقبل هذا السباب دائما بابتسامة من فمه وانحناءة من رأسه ، ويجلسها على كرسى آخر ويتولى بنفسه إصلاح الأمور ..! فقد كانت زينات هانم من كرائم السيدات ومن أحسن عملائه ..
     وذات يوم جاءت كعادتها وكان فى المحل عامل جديد وهو شاب فى السادسة والعشرين من عمره قوى الجسم موفور الصحة ، وجلست على الكرسى ونظرت إليه ، وأزاح شعرها إلى الوراء وابتدأ يعمل ..
     وكان من عادتها أن تحرك رأسها يمينا وشمالا أثناء الحلاقة ولا يجرأ واحد من العمال على أن يلفت نظرها إلى هذه العادة الذميمة .. ولكن هذا العامل لفت نظرها بصوت قوى ، فأمسكت برأسها كأنها تمثال ..
     وشعرت بأنامله وهى تمسح على شعرها ، ورأت وجهه فى المرآة أمامها فنظرت إليه وصمتت ، وظلت وادعة ساكنة حتى فرغ من الحلاقة فرنت إليه مبتسمة ممتنة ..
     ولما أخذت طريقها إلى الخارج وضعت فى يده ورقة مالية من ذات العشرة القروش فتناولها شاكرا ..
     وفى اليوم التالى جاءت على غير عادة ..! وكان العامل الجديد مشغولا فانتظرته إلى أن يفرغ من عمله ، واستقبلته باسمة ..
     وكانت أكثر هدوءا ووداعة ..
     وأغلقت عينيها وسبحت فى عالم الأحلام أكثر من مرة عندما كانت أنامل حسن تجرى فى شعرها ، ولما أكملت زينتها ناولته ورقة مالية أخرى فانحنى ممتنا ..
***  
     وذات يوم دق جرس التليفون عند الحلاق .. وسمع ميخاليدس صوت زينات هانم وهى تقول بصوت ناعم :
     ـ تسمح تبعت لى حسن بكره الساعة خمسة .. فى البيت .. خمسة تمام .. علشان فيه حفلة خيرية ومش حاقدر أمر عليك ..
     ـ حاضر يا هانم ..
     ووضع ميخاليدس السماعة .. وكتب فى دفتر مذكراته شيئا ..
***  
     وفى الساعة الخامسة من مساء اليوم التالى ، وقف حسن على باب السيدة زينات هانم وقرع الجرس ، وفتح له خادم أنيقة الباب .. وقادته إلى الداخل ، وجلس صامتا مأخوذا بما حوله من رياش وتحف ..
     وبعد قليل جاءت السيدة .. وأدخلته فى غرفة زينتها ..
     وحلت شعرها وجلست أمام المرآة الكبيرة .. وأخذ حسن يمشط هذا الشعر فى عناية ودقة .. وأنامله تجرى وراء المشط واستراحت زينات لعمله ، وشعرت بحواسها كلها تتخدر .. ثم أغلقت عينيها وراحت فى حلم ممتع ، وبعد فترة طويلة سألته فى رقة :
     ـ مبسوط عند ميخاليدس ..؟
     ـ أيوه ..
     ـ إن كنت عاوز حاجة قوللى ..
     ـ مرسى يا هانم ..
     ـ مجوز ..
     ـ لا .. ياهانم ..
     ـ ليه .. لأ ..
     ـ .....
     ـ خايف من النسوان ..؟
     ـ ...... 
     وصمت حسن وانهمك فى عمله فصمتت .. ثم رآها فى المرآة وهى تديم النظر إليه فى سكون ، فأخذ يرجل شعرها وقد غض من طرفه .. وتركته فى شأنه ، وأغلقت عينيها وسبحت بها الأحلام ، وأقبلت بها المناظر الممتعة وأدبرت ، وتصورته مرة يلثم شعرها .. وأخرى يقبل عنقها من الخلف .. ومرة أخرى ينحنى بكليته عليها فترفع وجهها إليه وتعطيه شفتيها ..
     واستفاقت من حلمها على صوته وهو يغلق حقيبته ..
     فقالت فى أسف :
     ـ خلاص ..؟
     ـ خلاص يا هانم ..
     ـ مرسى خالص ..
     ونهضت من كرسيها ومشت معه نحو باب الحجرة .. وعز عليها أن يتركها هكذا سريعا فتوقفت لحظة عند الباب ومدت يدها فأمسك بها فى راحته وانحنى ليصافحها .. فرفعتها فى حركة سريعة دون وعى منها إلى شفتيه وألصقتها بهما ..
     ورفع رأسه ونظر إلى عينيها ورآها تبتسم فى إغراء وفتنة فانحنى ليقبل يدها مرة أخرى ..
     فمالت عليه وأعطته ثغرها ..
============================================ 
نشرت القصة فى صحيفة الزمان 18/7/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة "
     =======================================























طبيب المركز

ذهبت إلى الريف فى زيارة قصيرة لأسرتى فى ذلك الفصل من فصول السنة الذى يكثر فيه البعوض .. ويتكاثر الذباب فى الريف .. ولم يكن  الخيار لى فقد كان هذا هو وقت فراغى الوحيد من عملى المتواصل فى القاهرة ومع هذا فقد مكثت هناك أكثر مما كنت أتوقع وأقدر ..
ولما أزمعت العودة إلى القاهرة .. حدث مالم يكن فى الحسبان .. فقد ظهر وباء الكوليرا وامتد من الوجه البحرى إلى الوجه القبلى بسرعة النار فى الهشيم .. فاضطرت السلطات إلى وقف السفر بالقطارات حتى لا تتسع دائرة الوباء ..
ولهذا وجدت نفسى بعد أسبوع من ظهور ذلك الوباء الأصفر فى الصعيد .. محبوسا فى قرية صغيرة نائية بعيدة عن العمران والمدنية .. وعن العالم المتحضر كله .. ووجدت نفسى وسط أناس بسطاء يعيشون على الفطرة .. وفى ظل تقاليد موروثة .. يتقاتلون ويتنازعون على شبر من الأرض .. وعلى حزمة من القش وعلى لا شىء .. ويعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق على الناس .. إذا ضاقت بهم سبل الحياة وضلوا السبيل ..
ولم أكن برغم هذا كله متبرما ولا ضجرا .. لأننى أحب الريف بكل ما فيه من خير وشر .. أحب أن أخرج فى الصباح الباكر وأمشى فى وسط الحقول مترقبا طلوع الشمس .. وهى ترسل شعاعها الأصفر على هذه المروج الخضراء .. فتذيب ما علق بها من ندى الفجر .. وأشاهد الفلاحين وهم يفلحون الأرض .. أو يسقون الزرع .. أو يشقون القنوات .. أو يكومون حزم البرسيم للدواب .. فإذا غربت الشمس ساقوا ماشيتهم أمامهم .. وساروا فى خط طويل إلى القرية وهم يغنون .. وعيونهم تتطلع إلى النيران التى توقد فى الحقول .. وإلى الطلقات التى تدوى فى الجو ..
ومضى أسبوع آخر وكنا نسمع أخبار الكوليرا وهى تنتقل من بلد إلى بلد .. وحالات الاشتباه الكثيرة فى القرى المجاورة .. وبرغم هذا كله فإننى لم أكن ألاحظ على هؤلاء الفلاحين فزعا أو رعبا .. كانوا لا يهابون الموت .. ولا يبالون بكل ما تأتى به الأيام .. ولم يكن ذلك راجعا إلى بلادة فى الحس أو غفلة عما يجرى حولهم من أحداث .. وإنما هو تسليم مطلق لما تأتى به المقادير وخضوع لحكم الله ..
وحدث أن مرضت امرأة فى القرية وماتت .. ولم يكن يصرح بالدفن إلا بعد أن يكشف عليها الطبيب خشية أن يكون قد أصابها ذلك الوباء ..
وأعطيت إشارة تليفونية .. وبعد ساعة جاء طبيب المركز ..
وكنت أتنزه ساعة الأصيل فى بستان قريب عندما جاءنى أحد الفلاحين ورجانى أن أذهب لمقابلة الطبيب .. عسى أن يرحمهم ويتقبل وساطتى .. لأننى أفندى مثله ..
ولم أفهم شيئا أول الأمر فهو طبيب المركز ويؤدى واجبه .. ولم يكن الأمر يحتاج إلى وساطة أو شفاعة .. ثم علمت وأنا فى الطريق إليه كل شىء عنه .. علمت أنهم جمعوا له جنيها لأن المرأة فقيرة ولا عائل لها فرماه فى وجوههم .. إنه طبيب جشع متعود على امتصاص دماء هؤلاء المساكين واستغلال جهلهم .. وأخذوا يقصون علىّ كثيرا من أحواله .. وهو أنه يحقن الفقراء بحقن الماء .. ويبيع المصل للأثرياء ويرتشى ولا هم له إلا جمع المال ..
سمعت الكثير .. وقد يكون هذا كله كذبا واختلاقا على الرجل .. ولكن الفلاحين يصدقون دائما هذه الأقاويل .. ولا يمكن أن يصدقوا أنه يوجد فى أمثال هؤلاء رجل شريف ..
***
ذهبت إليه فوجدته واقفا فى مدخل بيت المرأة الفقيرة وحوله الفلاحون .. وكان متوسط الطول .. متوسط العمر .. وعيناه ترنو إلى أفقر بيت فى أفقر حى .. ولقد ذهلت من الفقر المدقع الذى لاحظته فى هذا البيت .. ولم نر سوى حصيرة قديمة وحرام خلق .. وصومعة فارغة .. وبعض الملابس الرثة فى ظل الجدار .. وزير قذر فى فناء البيت .. ولم تكن هناك جاموسة أو نعجة أو حتى دجاجة .. أو أى شىء مما نشاهده فى منازل الفلاحين عادة .. كان كل شىء يدل على فقر أسود وبؤس شديد ..
ولقد أصبت وأنا الريفى القح بضربة شديدة وأنا أشاهد هذه الدار لأول مرة .. فلم أكن أتصور أن فى هذا البيت يمكن أن يعيش آدمى ..
وأحس الطبيب بى وأنا داخل .. ورأى الفلاحين وهم يفسحون لى الطريق .. فتحول وجهه إلىّ .. ورأيت أن أكتفى بتحيته بإشارة من يدى مخافة أن يكون من هؤلاء الأطباء الذين يمتنعون عن مصافحة الناس فى أيام الأوبئة ..
ولكنى رأيته يمد إلىّ يده وهو يبتسم وقد أدرك ما يدور فى رأسى .. فصافحته ورحبت به وأخرج من جيبه فى الحال دفترا صغيرا وصرح للمرأة بالدفن .. وشكرته ودعوته إلى شرب القهوة فى منزلى فقبل .. كنت أود أن أستبقيه إلى العشاء ولكنه اعتذر بكثرة أعماله فى هذه الأيام .. ولما كنت أود أن أذهب إلى مدينة سوهاج .. وكانت معه سيارته فقد ركبت معه السيارة إلى أقرب محطة للسيارات العمومية فى الطريق ..
وسرنا بالسيارة فى قلب الليل متمهلين فقد كان الظلام شديدا والطريق وعرا .. وكان الفيضان قد غمر الحقول وارتفع الماء على جانبى الجسر وبدا هذا كخط أسود وسط الماء ..
وكنا نسمع طلقات البنادق من بعيد .. ونشاهد النيران والعزب الصغيرة وقد خيم عليها الظلام .. ونطوى هذا كله .. ونمضى متمهلين وأخرى مسرعين .. إلى أن بلغنا نقطة المرور عند مفترق الطرق فوقفنا فى انتظار السيارة .. وطال انتظارنا لها ولم تأت ..
وأخيرا قال الطبيب :
ـ كانت الصحة تنوى وقف هذه السيارات منذ يومين لانتشار المرض .. وقد يكون الأمر صدر فى المساء ..
فركبت مع الطبيب إلى المركز لأمضى الليل فى منزله ..
***
وكان المنزل بجوار صف من المنازل المتميزة عن غيرها من منازل المركز بأنها مبنية بالطوب الأحمر ومطلية من الخارج بالجير .. وفى شارع ترب ولكنه نظيف نوعا ومن ورائه الحقول ..
وجلست مع الدكتور فى شرفة تطل على الحقول .. وكان الظلام مخيما والكلاب تنبح .. والضفاضع تنقق فى ضجيج متصل .. وكان الماء يبدو عاليا فى اللج وقد طوق القرية .. وبدا الجسر من بعيد متعرجا كثعبان ضخم أسود يسبح فى ماء الفيضان .. وبدت بعض مزارع الذرة النيلية فى الأرض المرتفعة عند مدخل القرية .. وأيقظ الطبيب خادمه وكان هو الوحيد الذى يعيش معه .. وأمره بأن يعد لنا العشاء ..
وجلست إلى المائدة معه ولاحظت أنه يشرب كثيرا ويأكل قليلا .. ولما فرغنا من الطعام أخذنا ندخن ونتحدث ..
وقال الطبيب وقد احمرت عيناه عندما رآنى أنظر إلى ناحية الحقول وأصغى إلى نقيق الضفادع هناك :
ـ أتحب الريف ..؟
ـ لقد أمضيت فيه صباى كله وبعض شبابى .. وكنت أعمل فى الحقول طوال النهار وأشعر بقوة وحيوية لا حد لهما .. أما الآن فأنا أخاف حتى من ضربة الشمس ولم أعد أصلح لشىء ..
ـ ولماذا تركته ..؟
ـ لأمر خارج عن إرادتى ..
ـ وتتمنى أن تعود إليه ..؟
ـ أجل برغم كل شىء .. برغم الذباب والبعوض والماء الملوث ..
ـ لو أقمت فيه مدة طويلة الآن لتغير رأيك ..
ـ لماذا ..؟
ـ لقد كنت مثلك .. وعندما جئت إلى هنا لأول مرة منذ سبع سنوات كانت فى رأسى كل أحلام الشباب ومثله العليا .. كنت أود أن أفعل شيئا عظيما لهؤلاء الفلاحين المساكين .. كنت أود أن أنقذهم من البلهارسيا والانكلستوما .. وما هو شر من ذلك .. وقلت فى نفسى إن الطبيب يستطيع أن يصنع الكثير لهؤلاء الناس ..
وفتحت عيادتى الخارجية على مصراعيها .. ولم أكن أتقاضى أى أجر وكنت أعمل بإخلاص وعزيمة صادقة .. وبرغم هذا كله لم يحضر إلىّ أحد .. ومضى الشهر والشهر وكدت أجن .. ثم بدأوا يأتون فرادى قلائل وهم بين الموت والحياة .. وكانوا يتركوننى ويذهبون إلى الأضرحة والدجالين والمشعوذين فى القرى المجاورة .. وكنت أرى على بعضهم التمائم والتعاويذ عند الكشف على جثتهم قبل الدفن .. وعلى مضى الأيام عرفتهم فوجدتهم جهلاء بسطاء أغبياء جهلاء جهالة لا تتصور .. ورأيت المكر والغدر أيضا وطباع اللئام ..
واجتمع علىّ الفراغ المطلق والحياة وسط هؤلاء فكدت أجن .. كانت معى كتبى وعيادتى وكنت أتسلى بهذا وأود أن أكون شيئا عظيما فى الريف .. أفعل ما فعله كوخ وباستير ..
ولكن بعد عام تحطم كل شىء وانهرت ولم أستطع الصمود ..
ووجدت الفراغ والجدة ورأيت كل الموظفين فى الريف يلعبون القمار وهو تسليتهم الوحيدة فى هذا الجو الخانق .. وكنت أذهب لأتفرج .. ثم أصبحت أذهب لأقامر .. واستغرق القمار كل تفكيرى وكل وقتى .. فأصبحت أقامر فى النهار والليل وفى كل وقت أجد فيه الفراغ ..
وصمت الدكتور قليلا ونفث دخان سيجارته .. وكنت أرى وجهه وهو يتحدث .. وألاحظ المرارة على شفتيه والأسى وخيبة الأمل ..
ونهض من مكانه وعاد بعد قليل ومعه زجاجة من الخمر وكأس ووضعهما على مائدة صغيرة وأخذ يشرب ..
وقال لى وهو يبتسم فى مرارة :
ـ لا تؤاخذنى إن فرطت فى الشراب .. فأنا لا أنام إلا إذا فعلت هذا .. وأنا أسكر وأنا طبيب يعرف مضار الخمر على الجسم والنفس معا .. ولكننى لا حول لى فى ذلك ولا قوة .. أسكر لأننى فقدت نفسى .. وعندما ترد إلىّ نفسى سأقلع عن الشراب ..
ـ أنا أعرف أنك أصبت بخيبة أمل مرة عندما جئت إلى الريف ..
ـ وكذلك أنت وكل شاب آخر ذهبت آماله وتبخرت أحلامه .. فأنا أعرف والدك الشيخ إسماعيل معرفة وثيقة وكلما ذهبت إلى قريتك حدثنى عنك .. فمكانك الطبيعى كان فى القرية .. ولكنك تركتها إلى المدينة .. وكذلك فعل غيرك .. ولهذا ظلت القرية المصرية كما رآها كوخ منذ خمسين عاما تشرب من ماء الآبار وتعيش فى ظلام دامس ..
والتمعت عيناه وغطت وجهه سحب الدخان المتصاعدة من سيجارته وكان وجهه وجه رجل نفض يده من كل شىء فى الحياة وعاش بلا أمل ..
أو وجه من حاول الانتحار أكثر من مرة وفشل فى كل مرة .. ثم نفض يده من هذا كله أخيرا وأسلم نفسه للمقادير ..
وكانت يده ترتعش وهى ممسكة بالكأس على الرغم من أنه لم يشرف على الخمسين .. وأفرغ فى جوفه نصف الزجاجة ومع هذا ظل يشرب .. وكانت قطرات العرق تتساقط على جبينه .. وعيناه كلما أفرط فى الشراب تزدادان احمرارا وبريقا ..
وكنت أحول وجهى عنه واتجه إلى المزارع القريبة .. وأستمع إلى نقيق الضفادع .. ونباح الكلاب ودوى الرصاص من حين إلى حين .. وقال لى الطبيب أخيرا :
ـ عندما تشعر بالنوم تفضل إلى هذه الغرفة لتنام .. أما أنا فلا أنام فى هذه الساعة ..إن الطبيب فى المركز لا ينام فى الليل .. فمعظم الحوادث تقع فى منتصف الليل عادة .. وفى كل ليلة أجلس هنا فى انتظار الإشارة التليفونية .. ومعظم الحوادث متشابهة .. قتل للأخذ بالثأر أو سلب بالاكراه .. أو ذبح للنساء من أجل الشرف ..
ورأيت عينيه تلتمعان وشفتيه تنفرجان عن ابتسامة خبيثة وهو يلفظ هذه الكلمات الأخيرة .. ولعله سر من التعبير نفسه أكثر من أى شىء آخر .. ثم استطرد بعد أن نفث دخانه فى جو الغرفة :
ـ ولكن الذبح هذا لا يمنع المرأة من أن تزنى وتفسق .. ومنذ الأزل وهى تفعل هذا ..
ـ تعنى أنها ترتكب الفحشاء ..؟
ـ أجل ولا شىء يقف فى طريقها حتى ولو سلختها كما تسلخ الشاة ..
وسألنى وهو يميل بوجهه إلى ناحيتى :
ـ أمتزوج ..؟
ـ كنت متزوجا ..
ـ وطلقتها ..؟
ـ بل ماتت ..
ـ لقد أراحك الله من شر مستطير .. أما أنا فقد تزوجت مرة واحدة وكأننى تزوجت مائة مرة ..
تزوجت امرأة مرغتنى فى الأوحال .. كانت عصرية من بيئة مثقفة .. وكانت تلعب القمار وتدخن وتسكر حتى تفقد وعيها وحتى لا تدرى ما يراد بها ..
وهممت مرة أن أقطع يديها أو أمزق جلدها .. ثم رأيت نفسى أجبن من أن أفعل هذا فطلقتها .. واسترحت وعشت كما ترى وسط البعوض والبلهارسيا والأنيميا ثم الكوليرا أخيرا ..
***
وقمت واستأذنته لأنام .. وتمددت فى الفراش وأخذنى النوم مدة واستيقظت .. وكنت أسمع نباح الكلاب وطنين البعوض فى الغرفة .. ثم يعاودنى النوم برهة قصيرة .. وأستيقظ مرة أخرى ..
وسمعت طرقا على الباب .. ثم صوت خادم الدكتور وهو يقول :
ـ حادثة يا بيه ..
وأخذ الدكتور يسب ويلعن لمدة عشر دقائق على الأقل الريف وسكانه والطب والأطباء والأيام السوداء التى جاءت به إلى هذا المركز .. ثم انقطع صياحه فأدركت أنه يرتدى ملابسه ..
وسمعت حركته وهو يغلق الباب الخارجى ..
***
واستيقظت فى الصباح .. وكان الطبيب قد عاد من الحادث .. ولا يزال نائما .. وبعد أن ارتفعت الشمس استيقظ .. وكان الخادم قد أعد لنا الشاى ..
وقال وهو ضاحك السن :
ـ صباح الخير .. لقد أقلقناك الليلة ..
ـ لقد سمعتك وأنت تتحدث مع الخادم .. ماذا جرى ..؟
ـ وقعت حادثة فى بلدة صغيرة على مسيرة أميال قليلة من المركز وهى الأولى من نوعها فى هذه المنطقة ..
ـ حادثة قتل ..؟
ـ شروع فيه .. امرأة حاولت أن تذبح زوجها فى ليلة زفافها ..
استغرق فى الضحك .. ثم استطرد :
ـ ركبت سيارتى .. وركب معى وكيل النيابة .. وركب المأمور ومعه بعض العساكر سيارة المركز .. وبعد نصف ساعة كنا فى القرية وجلسنا فى دار العمدة وكان فى انتظارنا .. وجاء الخفراء يحملون " فانوسا " نصف زجاجه مهشم ومنضدة قديمة .. ووضعوهما أمام المحقق .. وكان نفر من الفلاحين مجتمعين خارج الغرفة التى نجلس فيها يطلون علينا من النوافذ .. وحولهم الخفراء بلبدهم الحمراء وهم أمتع منظر فى القرية .. وجلست بجانب المأمور على كنبة أكلها التراب .. وابتدأ التحقيق ولم تكن اصابة الزوج بالغة .. ضرب بسكين فى عنقه .. وعندما رأيته طارت الفكرة التى كونتها عنه .. فإذا به شاب فى الثلاثين من عمره قوى العضل مفتول الساعد .. وكان أسمر فى حمرة .. وفى عينيه حول خفيف ..
وسئل الزوج وسئل غيره .. ثم خيم السكون على الحجرة واشرأبت الأعناق .. ودخلت امرأة تغطى وجهها بطرحتها .. مشت متئدة ثم وقفت أمام المنضدة .. ورأيت عينا واحدة تبرق .. وجانبا من الخد .. وخط الهدب وبعض الجبين .. ورمش العين اليمنى كله .. وكان جسمها يدل على أنها طويلة العود .. وكان حياؤها بالغا لا حد له .. ودخل معها الخفير ثم تركها فتلفتت وراءها ولعلها كانت تود أن تقول له " لم تركتنى مع هؤلاء الغرباء " وحاولت أن أرى يدها أو شعرها أو قدمها وهى واقفة هكذا فلم أستطع .. كان ثوبها سامريا .. وطرحتها تغطى كل وجهها .. ووجه إليها المحقق أول سؤال .. ورن صوتها فى جنبات القاعة لأول مرة .. كان صوتا لينا ناعما حلو الجرس .. وأنكرت ما هو منسوب إليها بالطبع .. وظهر انفعالها بوضوح عندما عاود المحقق السؤال .. وكانت تعانى اضطرابا عصبيا شديدا .. وكنت أجلس فى صدر الغرفة ولمحت وجهها لأول مرة وقد اخضلت عيناها بالدمع وبدا الوجه ورديا مشرقا كفلقة الصبح فى الليل البهيم .. كان مشرقا بالغا حد الفتنة .. ثم عادت وغطت وجهها ..
وتذكرت عندما رأيت هذا الوجه وهذا الاضطراب العصبى .. كل ما قرأته عن أدار .. وهوفلاند .. وفرويد ..
وجاء دورى لأفحصها .. فأخذتها إلى غرفة مجاورة لأفحص ملابسها وأرى آثار الدم ..
وبعد قليل رجعت أهمس فى أذن المأمور :
ـ لم أستطع أن أزيح طرحتها عن شعرها .. فما العمل ..؟
وقال لى المأمور وهو يبتسم وكان حكيما :
ـ إننا هنا فى الصعيد .. ولو حاولت أن تكشف عليها بالقوة فسيثور أهلها ويحدث مالا تحمد عقباه .. وبعد قليل سنأخذها إلى المركز لأنها متهمة .. فأجل الكشف إلى هناك ..
واقتنعت بوجاهة هذا الرأى .. وانتهى التحقيق ونهضنا عائدين إلى المركز ..
وسألت الدكتور :
ـ هل رأيتها ..؟
ـ أجل ورأيت كل شىء فيها .. وأنا على استعداد لأن أسجن أو أشنق فى سبيل أن أمضى ليلة واحدة معها .. ليلة واحدة ليس إلا ..
***
وظلت صورة هذه الفتاة الرائعة كما رسمها الطبيب تداعب مخيلتى طول النهار ..
وكانت المواصلات بين القرى لا تزال مقطوعة فبقيت فى المركز ..
وفى المساء قابلت الطبيب وكان على غير عادته متجهم الوجه عابسا فرددت ذلك إلى تعبه فى الليالى السابقة وكثرة الحوادث ..
وتمشينا قليلا على الترعة ثم جلسنا فى مقهى صغير يملكه رجل يونانى وتناولنا عشاء خفيفا .. وأخذنا نتحدث .. وكانت صورة هذه الفتاة لا تزال فى ذهنى .. فسألته :
ـ ماذا جرى للفتاة ..؟
فقال وهو يعض على نواجذه :
ـ إنك تنطق بلسان القدر .. لقد جرى لها الكثير ..
وصمت برهة وغامت عيناه .. ثم رجع إلى نفسه واستطرد :
ـ عندما كشفت على الفتاة لم أجد أى أثر فى جسمها أو ملابسها يدل على أنها ارتكبت جريمة .. ولما نظرت إلى وجهها ويدها .. قلت فى نفسى إن هذه اليد لا يمكن أن تحمل مدية .. إنها تحمل زهرة وأقحوانة .. أما السلاح فلا .. ولاحظت رقة الفتاة ودماثتها ولين طباعها وخفرها الذى لا يصور .. وقلت فى نفسى حرام أن تزج بهذه الزهرة الجميلة فى السجن .. ولا بد من براءتها بأى حال ..
وكتبت التقرير بأن الجرح الذى فى الزوج من افتعاله هو .. وجاء الطبيب الشرعى فأيد كلامى .. ولم يكن هناك شهود رأوا الفتاة وهى تضرب الزوج بالمدية أو بسواها ولهذا أفرج المحقق عن الفتاة ..
ولكن مع الأسف لم تصل إلى قريتها .. فقد ضربت بسكين أصابت منها مقتلا وهى فى الطريق إلى القرية ..
وقدر لى أن أرى هذه الزهرة التى لم تمسها يد لامس حية وميتة ..
قدر لى أن أراها جثة بعد أن عشقتها امرأة ..
وتناولت المشرط لأشرح الجثة .. ووجدت الدموع تتساقط من عينى ..
أنا الذى لم أبك على امرأة فى حياتى .. فما أفظع الحياة ..
=========================
نشرت القصة فى مجلة آخر ساعة بالعدد 794 بتاريخ 11/1/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة " سنة 1953
========================     


 
 
    
































بيت الأشجان

نزل من الترام عند مستشفى القصر العينى واتجه إلى المنيل متلمسا طريقه فى الظلام .. وكان الاظلام شاملا والحرب بين الألمان والإنجليز فى الصحراء على أشدها .. وكان الإنجليز يتراجعون وروميل يتقدم صوب الضبعة ..
وكان شارع القصر العينى يزخر طول الليل بحركة السيارات الكبيرة المحملة بالجنود الذاهبة إلى الميدان والعائدة منه .. كان رتل السيارات لا ينقطع فى هذا الظلام الشديد لحظة واحدة ..
وكانت السيارات تنطلق فى سرعة فائقة .. ولهذا كان السائر فى هذا الشارع يسير حذرا خائفا متوجسا من الظلام ومن السيارات ومن الجنود أنفسهم ..
وكانت الساعة قد اقتربت من العاشرة ليلا وكان الطريق خاليا خلوا تاما من المارة .. وعندما بلغ كوبرى محمد على وانحرف إلى اليسار متخذا الرصيف طريقا له شعر بالوحشة والانقباض فى هذا السكون العميق فلم يسمع حسا ولا صوتا ولا قدم إنسان ..
وكانت الأشجار الضخمة القائمة على الرصيف حذاء الترعة تزيد المكان ظلاما ورهبة .. ومرت بجواره سيارة محملة بالجنود ورآها تتوقف على مسافة قريبة منه فشعر بشىء يقبض على قلبه ويضغط ثم يطلقه فى عنف .. وظل بصره عالقا بالسيارة إلى أن رآها تتحرك فتنفس الصعداء .. وكان قد مر فى هذا الطريق فى الليل مرات عديدة فلم يشعر بمثل الخوف الذى ساوره فى هذه الليلة ..
كان خائفا يتوجس .. وكان يسمع صوت أقدامه بوضوح فى هذا الليل الساكن .. ومرت أكثر من سيارة ملاكى وعربة واحدة من عربات الأتوبيس .. وكان يستأنس بنور هذه السيارة وبمن فيها من الركاب .. وكان سور المستشفى الجديد على يمينه والمستشفى يبدو من بعيد غارقا فى غياهب الليل .. وكان الجو صحوا ونسمات الليل تداعب وجهه .. والنجوم تتألق فى السماء .. والمصابيح الزرقاء تعكس نورها الباهت على الأرض ..
وكان قد رفع وجهه إلى السماء .. وفتح صدره لهواء الصيف وشعر بعليل الهواء ولينه وبقوة الحياة وسحرها .. فأسرع فى مشيته .. وعاوده الاطمئنان وسكينة النفس .. وفجأة دوت صفارة الإنذار فأحس برجفة هزت أعصابه وانتفض لها قلبه ..
وأعقب دوى الصفارة طلقات المدافع المضادة .. وأخذ اللهب الأصفر يخترق السحاب .. والقذائف تضىء وتتهاوى كالشهب ..
ونظر حواليه يبحث عن مكان يلجأ إليه فلم يجد .. فانطلق يعدو بأقصى سرعته حتى صادف أول بيت فى الطريق فوقف على عتبته .. وجعل ظهره إلى الباب وعينيه إلى السماء ..
وكان صوت المدافع لا ينقطع فى الجو وأخذت السماء تتلبد بسحب الصيف الخفيفة .. وبدأ القمر يرتفع عن خط الأفق وأخذ يبدد ما حوله من ظلمات تدريجيا .. فوضخت معالم الأشياء التى تحيط به ..
واشتد دوى المدافع وصوت الطلقات .. وخيل إليه أنه يسمع تفجرات القنابل الملقاة من الطائرات المغيرة .. فشعر بهزة عنيفة واشتد حبه للحياة فتجمع على نفسه .. وكان كلما اشتد الضرب من الأرض ومن السماء أغلق عينيه .. ووضع يده على رأسه يتقى بها الصواعق النازلة فوقه ..
وسمع صوت طيارة تمر فوق رأسه أو خيل إليه ذلك ..
واشتدت القذائف فى الجو ..
وسمع صوت انفجار شديد وتصور أنه يسمع جدارا ينقض قريبا منه فانكمش .. وحاول دفع الباب الذى خلفه بكل قوته ..
وقاومه الباب وأحس بشىء ثقيل يحط على صدغه .. فصرخ وسقط مغشيا عليه ..
ولما رجع إلى صوابه وفتح عينيه ألفى نفسه مددا على بساط فى غرفة كبيرة مملوءة بالكراسى والأرائك وفى وسطها طاولة رخامية صغيرة .. وكانت الغرفة مضاءة فأدرك أن الغارة قد انتهت ..
ورأى باب الغرفة مفتوحا على الممشى الخارجى للبيت فاستنتج أنه سقط فى هذا المكان ونقل منه إلى هذه الغرفة .. ولكن من الذى فعل هذا ..؟
لم يسمع أى صوت فى داخل المنزل أو خارجه .. وعجب لهذا وكان رأسه معصوبا وفى جسمه رضوض شديدة .. ووجد بقع الدم تلطخ وجهه وقميصه وملابسه ..
وحرك يده اليمنى وتذكر أنه كان يمسك بهذه اليد كتبه المدرسية .. فأين ذهبت ..؟
وتلفت فى جوانب الغرفة فألفاها موضوعة على كرسى قريب منه .. وحاول أن يجمع شتات نفسه وينهض فلم يستطع .. فأخذ يدير رأسه فى سقف الغرفة وجدرانها وأثاثها وكانت حالة الغرفة على العموم تدل على أنها مهملة وشبه مهجورة فلا تستعمل إلا نادرا ..
ولاحظ صورة كبيرة معلقة فى صدر الغرفة مجللة بالسواد فأمعن فيها البصر .. فوجد أنها لرجل فى العقد الخامس من عمره .. وكانت الصورة كبيرة فبدت ملامح الرجل واضحة .. وكان طويل الوجه أبيض ضيق العينين بارز الذقن له شارب ضخم مفتول .. وكان الرجل ينظر إليه ولا يحول بصره عنه .. وكان بجوار هذه الصورة صورة أخرى لسيدة مجللة أيضا ولم يستطع أن يتبين ملامحها لصغر الصورة .. ورأى ستائر سوداء على النوافذ .. وأغلق عينيه وانتفض لهذا السواد المحيط به وتصور أنه مقدمة نعيه ..
ولما فتح عينيه وجد امرأة لابسة السواد واقفة على رأسه .. فحملق فيها صامتا .. وكانت عجوزا مستديرة الوجه قصيرة القامة ناحلة العود تغطى رأسها بطرحة سوداء .. وتمسك بيدها بطانية وضعتها عند قدمى المصاب وهى تقول :
ـ خذ يا بنى فقد تحتاج إليها .. طلبنا لك الإسعاف من بيت الجيران مرة ومرات ولغاية الآن لم يحضر ..
ـ أرجو المعذرة لقد سببت لكم المتاعب .. ولقد ساقنى القدر فوقفت على بابكم .. وحدث هذا فى مثل لمح الطرف ..
ـ أشكر ربك يا بنى .. الذى وهب لك الحياة من جديد .. رأتك سعدية بعد الغارة وأنت ساقط على عتبة الباب فصرخت .. وتصورناك ميتا .. ولما وجدنا قلبك ينبض وضعناك هنا ..
وصمتت قليلا ثم قالت :
ـ أمنزلك قريب من هنا لنخبر أمك ..؟
ـ فى محطة الباشا .. ولا داعى لهذا فبعد قليل سأنهض وأروح ..
ـ حاول أن تنام يا ابنى .. النوم يفيدك ..
قالت هذا وخرجت ..
وسمعها تتحدث بعد لحظات مع سيدة أخرى وكان صوت هذه ألين وأرق .. ثم انقطع الصوت ودخلت عليه سيدة أخرى بيدها إناء به ماء ومنشفة ومسحت له الدم العالق بوجهه .. فشكرها .. وأخذ ينظر إليها .. وكانت فى الخامسة والثلاثين من عمرها بيضاء طويلة القامة مليحة تقاطيع الوجه سوداء العينين .. متألقة البشرة .. تلبس رداء أسود وتضع وشاحا على كتفيها ..
وسألته وعلى شفتيها ظل ابتسامة حزينة :
ـ جاى من السينما ..؟
ـ لا .. كنت بذاكر مع واحد صاحبى ..
وسألها بعد برهة :
ـ هل أصابت الغارة شيئا آخر ..؟
فضحكت وقالت :
ـ أتتصور أنك أصبت فى غارة وتبقى منك لحمة على عظم ..
ـ ماذا أصابنى إذن ..؟ 
ـ لقد أصبت بشظية مدفع مضاد .. ولم تحصل غارات على المنيل .. وبإذن الله وبركة الست الطاهرة لن تحصل ..
وأخذت تدعو وتبتهل ..
وأحس بألم شديد فتأوه ..
فقالت :
ـ تعبان ..؟
ـ خالص .. أطلبى الإسعاف من فضلك ..
ـ طلبناه .. وحالا سيحضر ..
ـ عاوز أموت ..
ـ ليه أنت لسه صغير ..
ـ عاوز أقوم وأخرج إلى الشارع وأتعرض لغارة ثانية .. وأموت ..
ـ ولماذا ..؟
ـ لقد كنت أثناء الغارة أخاف من الموت .. وأتمنى الحياة .. أما الآن فأنا أطلب الموت لأستريح من العذاب ..
ـ ربنا يشفيك ..
وتناولت الإناء ونهضت .. وكان يود أن يقول لها أرجو ألا تتركينى وحدى .. أحضرى موتى على الأقل .. ولكنه خجل من نفسه وصمت ..
ولما ذهبت أغلق عينيه .. وأحس بطنين فى أذنيه يعاوده من جديد .. وصداع شديد .. وخيل إليه أن طاحونة تدور فى داخل رأسه ..
فأخذ يتأوه بصوت عال .. ثم ذكر أنه فى بيت أناس هو غريب عنهم .. وليس من اللائق أن يزعجهم فصمت على مضض .. ولكن الألم اشتد عليه بعد قليل فانطلق لسانه معبرا عن آلامه ..
وسمعت سعدية صوته وهو يتأوه .. وكانت لا تزال مستيقظة إذ أن عمتها توحيدة نامت .. وبقيت هى الوحيدة الساهرة فى المنزل وكانت أول من رأى هذا الطالب وهو يسقط على الباب وحوله كتبه متناثرة .. فصرخت وأخبرت عمتها وتركته لها .. لأنها بطبيعتها وتكوينها بعيدة عن الرجال محبوسة عنهم .. فلما اشتد صوته وألمه رق له قلبها .. فنهضت مرة أخرى واتجهت إلى الغرفة ..
فلما وقفت على رأسه كان النوم قد أخذ بمعاقد أجفانه وأراحه من العذاب .. فجلست على كرسى قريب منه وأخذت تنظر إليه .. وكان فتى فى الثامنة عشرة من عمره أو يزيد .. أسمر الوجه .. واضح القسمات .. بديع التكوين .. يرتدى بدلة رمادية وقميصا أبيض قد سال عليه الدم وكان رباط رقبته مفتوحا وقميصه مفتوح العروة فبدا شعر صدره .. وكان وجهه يعبر عن حالة مستكنة من الألم ..
نظرت سعدية إليه وجالت فى عينيها الدموع .. كانت قد ذكرت أصغر إخوتها وآخر من بقى لها من أسرتها فى هذه الدنيا .. عندما قتل منذ سنوات .. إذ ضربه الكونستبلات الإنجليز بالرصاص وكان على رأس مظاهرة فى الروضة .. وحملوه إليها مضرجا بدمه ووضعوه فى هذه الغرفة .. وسالت دموعها مدرارا .. وعادت بها الذكريات إلى الوراء .. فذكرت والدها وقد مات بالسكتة القلبية فى ساحة المحكمة بعد أن فرغ من مرافعته فى قضية من القضايا .. وحملوه إلى أمها وكانت هى صغيرة لا تعرف أحزان الحياة .. ووضعوه فى هذه الغرفة أيضا ثم خرجوا إلى المقبرة .. وما زالت أمها من بعده فى سواد وحداد عليه إلى أن قضت ..
وعاشت سعدية من بعدهم يتيمة حزينة فى هذا المنزل ..
وكانت عمتها توحيدة متزوجة من رجل كهل فلما مات دون أن ينجب جاءت لتعيش معها وتؤنسها فى وحدتها المرة .. وعاشت سعدية كل هذه السنوات العشرين وهى لا ترى الدنيا إلا من خلال منظار أسود .. فما ذهبت إلى سينما ولا شاهدت ملهى ولا مرقصا ولا إدارة راديو ولا استمعت إلى موسيقى .. ولا جلست فى مجلس فيه رجل ..
كل هذه كانت من المحرمات التى تسىء إلى ذكرى أعزائها الراحلين الراقدين تحت الثرى ..
وكانت حياتها بين المقبرة ـ فى أيام الجمعة ـ والبيت مع هذه العمة المسنة .. وكانت ترى عمتها وهى تتقدم فى السن .. ويشيب شعر رأسها ويتغضن وجهها ويقوس ظهرها .. وترى فيها صورتها فى الغد القريب .. فتكاد تجن لهذا الخاطر المعذب ..
وكانت عمتها تقية نقية فعلمتها الصلاة منذ صغرها .. فكانت تصلى بقلب خاشع .. ولكن دعاءها كان دائما يتجه إلى طلب الرحمة لوالديها وأخيها الشهيد .. كانت تذكرهم دائما فى صلاتها وتطلب الرحمة لهم وتنسى نفسها .. كانوا يستغرقون حياتها .. وكانت تعيش لهم وتفنى فى ذكراهم .. وكانت صورهم لا تبرح مخيلتها أبدا فى ليل أو نهار .. كانت تفكر فيهم أكثر مما تفكر فى نفسها وفى شئون معاشها .. كانت تبخل عن نفسها بالثوب الجديد والطعام الجيد لتعد الرحمة لهم كل يوم جمعة .. وتذهب بنفسها لتوزعها على الفقراء فى القرافة .. وكانت تشعر بلذة وسعادة كبرى وهى تفعل هذا ..
وكانت جميلة فى شبابها ولكنها كانت فقيرة .. فلم يتقدم أحد لزواجها .. وانصرفت بمضى الأيام عن التفكير فى الرجل .. ولم يكن هناك ما يدعو لأن تفكر فيه .. فقد كان بعيدا عن جوها وعن محيط حياتها كله ..
وكانت تعيش من إيراد منزل صغير وهو كل ما خلفه لها والدها من ثروة وكانت بهذا الإيراد قانعة فى هذا المنزل ..
وبعد هذه السنوات الطويلات يجىء هذا الشاب إلى منزلها تسوقه الأقدار إليها فى ليلة مظلمة مروعة .. ونظرت إليه وأطالت النظر .. وكان الدم قد عاد من جديد يسيل من جراحه ويلطخ وجهه .. فأخرجت منديلها من بين طيات ثوبها .. وأخذت تمسح وجهه فى رفق .. وشعرت بإحساس غريب لذيد يساورها لأول مرة فى حياتها .. وعندما لامست يدها عرضا ذراعه أحست بشىء غامض قوى يهز كيانها .. واستمرت تمسح على وجهه برفق وهى غائبة عن وعيها ..
وشعرت بأن شيئا فى أعماق نفسها يتفتح لأول مرة كما تتفتح الزهرة وهى تستقبل شمس الحياة ودفئها .. وتخيلت وهى تنظر إليه أن ذراعيه تدوران حول جسمها .. وشفتيه هذين تضغطان على شفتيها .. واستغرقها هذا الخاطر فأغلقت عينيها وأصابها خدر لذيذ ..
وسمعت صوت المؤذن يؤذن الفجر فى مسجد قريب فانتفضت وخرجت من الغرفة وهى تبكى ..
وصلت الفجر .. وابتهلت إلى الله أن يحفظها من الدنس ويصونها ..
وذهبت إلى عمتها .. وطلبت منها فى حدة وغضب أن تطلب الإسعاف أو العسكرى ليذهب بهذا الشاب إلى أى مكان فليس بيتها مستشفى للغرباء .. وكانت محتدة تصيح بأعلا صوتها وتلوم عمتها لأنها وضعت الشاب فى هذه الغرفة .. واستغربت عمتها لحالها ..
واستيقظ هو على هذا الصوت وسمع الحديث كله والصياح جميعه .. فتحامل على نفسه حتى استوى على قدميه .. وكان النوم قد أفاده بعض الشىء فاعتمد على الجدار وتحرك حتى اقترب من الباب وخرج يجر نفسه جرا ..
ورأته سعدية من نافذة الغرفة وهو خارج فى ظل الفجر الوردى فأمسكت بمنديلها ووضعته فى فمها لتكتم صرخة ندت من أعماقها .. وعندما اجتاز الممشى الخارجى وخرج إلى الطريق سقط ..
وكان جرس عربة الإسعاف قد دوى فى هذا السكون ..
========================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان بتاريخ 30/5/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة " سنة 1953
=========================    
     
  


















الزوجة العصرية

عندما تزوج عبد الخالق أفندى الآنسة سنية توفيق شعر بسعادة كبرى فقد كان يحبها قبل الزواج إلى درجة العبادة ويتمنى على الله أن يحقق حلمه الذهبى بالزواج منها .. فلما تحقق له هذا الحلم حلق فى السموات بجناحين وغدا أسعد الناس جميعا ..
وحرص فى السنوات الأولى من زواجه على أن يغمرها بحبه وعطفه فكان لايرد لها مطلبا ولا يرفض لها رغبة .. ولما وجدته أطوع لها من بنانها طوته تحت جناحها وسيطرت عليه بقوة .. وفرضت عليه إرادتها ورغباتها .. ومازالت تتمادى حتى أصبح يعيش فى البيت كقطعة بالية من الأثاث ..
وكانت تخرج وحدها .. وتعود وحدها .. وترك لها الحبل على الغارب ..
ولما أقبل الصيف أبدت سنية رغبتها فى أن تصيف فى الإسكندرية كما تفعل السيدات من طبقتها ..
ولما كان عبد الخالق أفندى لا يستطيع أن يذهب معها لأن عمله لايسمح بذلك فقد سافرت سنية مع والدتها بعد أن استأجرت شقة فى كليوباترا ..
وودعها عبد الخالق على المحطة وهو يذرف الدمع السخين .. ووعد بأن يزورها كلما سنحت الفرصة ..
ولما سنحت له هذه الفرصة بعد شهر من سفر زوجته طار من الفرح .. وأخذ يتصورها وهى تتزين له .. وتعد العدة لاستقباله .. فتنظف البيت .. وتشترى الزهور من السوق .. وتعد له الطعام الشهى .. وتذهب بنفسها لاستقباله على المحطة ..
وظل طول الوقت فى القطار يفكر فى هذا ومثله .. فلما اقترب القطار من محطة سيدى جابر شعر بضربات قلبه تشتد وبجسمه كله ينتفض .. وثبت بصره على الرصيف يبحث من بين المستقبلين عن وجه زوجته ..
ووقف القطار ونزل على الرصيف ودار ببصره الحائر .. فلم يجدها ولم يجد أحدا غيرها فى انتظاره حتى ولا أحد الخدم .. وأعطى الحقيبة للحمال وسار وراءه وهو يشعر بخيبة الأمل .. وطار أول حلم من رأسه ..
وعندما بلغ البيت كان يتوقع أن يراها فى النافذة أو فى الشرفة تنتظره فى لهفة .. فلم ير حتى طيفها ..
ودخل البيت فلم يجد فيه سوى خادمة صغيرة فسألها عن سيدتها .. فقالت :
ـ ستى مع الست الكبيرة على البلاج ..
فجرى إلى البلاج دون أن يغير ملابس السفر من فرط ما يعانيه من شوق ..
ونزل إلى الشاطىء وأسرع نحو " الكابينة " ولما اقترب منها رأى منظرا صعق له .. وجعله يقترب متمهلا بعد أن كان يسرع كالملهوف ..
رأى زوجته جالسة مع بعض الشبان الغرباء تلعب الورق فى داخل الكابينة على منضدة طويلة .. ورأى حماته جالسة معها وبيدها الورق أيضا .. وشعر بخنجر حاد يمزق أحشاءه .. واقترب وقد أسود وجهه وسمع حماته تقول لابنتها بصوت مرتفع :
ـ زوجك شرف ..
فرفعت سنية بصرها عن الورق لحظة ونظرت إليه ثم عادت إلى اللعب .. لم تحيه بكلمة أو ابتسامة .. بل لقد لاحظ أنها استاءت لمقدمه وظهر أثر ذلك على وجهها ..
وكانت الكراسى كلها مشغولة باللاعبين فظل واقفا أكثر من دقيقتين .. وهو شاعر أن الأرض تميد من تحته ..
وأخيرا قالت حماته :
ـ نجيب لك كرسى يا عبد الخالق بيه ..! واللا تأخذ كرسى من الجيران وتروح تقعد على البحر أحسن .. مفيش منك فايدة هنا لا تعرف تلعب ولا حاجة ..
فابتسم ابتسامة صفراء .. ومشى إلى البحر وهناك جلس على الرمال .. وأخذ وهو جالس يستعرض حياته مع سنية وأدرك لأول مرة أنه ترك لها العنان حتى جمحت وأنه أفسد حياته بيديه ..
وكان مجلسه بعيدا عنهم ولكنه كان يسمع ضحكاتهم العالية الصاخبة حتى تحولت إليهم أنظار المصطافين .. وكانت الأم التى صبغت شعرها وزججت حاجبيها ولطخت شفتيها بالأحمر الصارخ أكثر الجالسين مرحا وفجورا ..
وأخذ عبد الخالق يسترق النظر إليهم من بين زحمة الجالسين على البلاج .. ورأى الشاب الجالس بجوار زوجته يعابثها ويتحسس فخذها وهى جذلانة طروب .. وكانت الأم تدخن .. ولاحظ أن زوجته تمسك السيجارة مثل أمها وتقلدها فى كل حركاتها وسكناتها ..
واستغرب كيف لم يدرك هذا من قبل .. كيف لم يدرك عمل الوراثة .. كيف لم يدرك الدم الفاجر الذى يجرى فى عروق الأسرة ..
وكان الشبان يميلون على الأم ويلقون إليها ببعض الكلمات فى أذنها وهى تضحك فى عهر ظاهر ..
***
وأخيرا طويت الطاولة .. ورأى زوجته تقبل نحوه ومعها الشاب الذى كان يجلس بجوارها على مائدة القمار .. وكانت تلبس برنسا وكذلك الشاب .. ووقفت بجواره لحظات وهى تضحك ثم خلعت البرنس وأعطته لزوجها .. وخلع الشاب برنسه وأعطاه له أيضا ..
ونزلت زوجته وعشيقها إلى البحر وابتعدا عن الأنظار ..
وجلس على الرمال يحرس البرنسين ..
وشعر بشىء ثقيل يجثم على قلبه .. وجلس صامتا كالتمثال لايرى شيئا مما حوله ثم ثارت رجولته لأول مرة فانتفض واقفا وغادر البلاج .. وفى حمية ثورته ذهب إلى البيت وأخذ الحقيبة وانطلق إلى المدينة يبحث عن فندق يمضى فيه ليلته .. وفى الصباح سيعود إلى القاهرة فى أول قطار ..
وكان الصيف فى صميمه والمدينة مزدحمة والفنادق كلها ممتلئة فلم يعثر على غرفة ..
وهبط الليل فجلس على مقهى وتقدم إليه غلام لينظف حذاءه فمد رجله بحركة آلية ..
وقال له الغلام وهو ينظر إلى الحقيبة :
ـ عاوز أوده مفروشة يا بيه ..؟
فانتفض :
ـ أيوه .. فين ..؟
ـ فيه أوده كويسة فى بنسيون قريب من هنا ..
ومشى وراء الغلام فى تلك الشوارع الضيقة التى تتفرع من محطة الرمل ودخل شارعا مظلما .. واستقبلته صاحبة البنسيون وهى سيدة فى منتصف العمر مرحبة وقادته إلى الغرفة ..
وخلع ملابسه ولبس غيرها ونزل إلى المدينة وكان لا يزال على حاله من الغم والتفكير فلم ير فيما شاهده شيئا يسره .. فعاد مبكرا إلى البنسيون ..
ووجد السيدة جالسة وحدها فى الصالة .. وابتدرته بقولها :
ـ يعنى رجعت بدرى .. مفيش فسحة ..؟
ـ تعبان ..
 فيه إيه ..؟
ـ عندى صداع ..
ـ حاعملك قهوة ..
ـ مفيش لزوم للتعب ..
ـ لازم ..
ونهضت ورآها وهى مدبرة وكأنه يراها لأول مرة .. كانت طويلة القامة بديعة التكوين كأنما صب جسمها مثال بارع ..
وجاءته بالقهوة .. وكان قد دخل غرفته وجلس إلى مائدة صغيرة ووضع رأسه بين يديه وعلى وجهه كل أمارات التعاسة .. ونظرت إليه وسألته وهى تضع أمامه الفنجان :
ـ مالك .. زعلان ليه ..؟
واستغرب هذا السؤال وهذا العطف من امرأة غريبة عنه .. وهو المحروم من كل عطف وحنان ورفع وجهه إليها ..
وعادت تسأله :
ـ مالك ..؟
ـ ....
ـ خسرت فى البورصة ..؟
ـ ....
فضحك وتناول الفنجان .. ولما شرب القهوة أحس ببعض الانتعاش .. فسألها وكانت لاتزال واقفة بجوار كرسيه :
ـ عايشة وحدك ..؟
ـ أيوه ..
ـ ما فيش راجل ..؟
ـ مبحبش الرجالة .. كلهم خاينين ..!
ـ والستات ..؟
ـ مساكين ..
وشعر بكل نفسه تتفتح وبجوارحه كلها تنتشى وهى مقبلة عليه بوجهها تحادثه وتعطيه من نفسها ..
ولم يشعر بنفسه الحزينة .. وهو يزحف نحوها ويمسك بيدها ثم ينحنى عليها ليقبلها واقتربت منه والتصقت به جدا .. وكان جسمه كله يرتعش .. فقد كان يخون زوجته لأول مرة فى حياته الزوجية ..
========================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان بتاريخ 25/7/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة " سنة 1953
=========================  






صالح العمل

كان عبد الستار أفندى موظفا صغيرا فى قسم الأوبئة بوزارة الصحة وكان يجلس مع سبعة من زملائه فى حجرة ضيقة .. رطبة .. على مكاتب قذرة وأمامهم أكداس الأوراق ..
وكانوا يعملون فى فصل الصيف .. وهو الفصل الذى تكثر فيه الأوبئة عملا مرهقا متصلا .. وكان عبد الستار أفندى أكثرهم حماسة للعمل واستغراقا فيه وتفانيا إلى حد الخبل .. ولهذا أصبح موضع السخرية من زملائه جميعا ..
وكان فى الرابعة والخمسين من عمره .. مقوس الظهر .. محطم الجسم .. قد قضى فى درجته أكثر من عشرين عاما وفى حجرته هذه أكثر من ربع قرن ..
وكانت حياته فى البيت والمقهى هى امتداد لحياته فى الديوان .. فما فكر إلا فى الملف .. والأدوية .. والمراقب .. والمدير العام .. وسعادة الوكيل ..
وعندما ينتقل التيفود من الإسكندرية إلى دمنهور يشعر بمغص معوى وارتفاع فى درجة الحرارة وهبوط عام .. ويظل فى مكتبه يتلقى البيانات ويتبع هذه النحلة الدوارة وهى تنتقل من فنن إلى فنن ثم يرسل تعليمات الصحة إلى الجهات ..
وكان يظل طوال ساعات العمل مكبا على الأوراق القذرة التى تداولتها آلاف الأيدى .. والتى تحمل بين طياتها مئات الجراثيم .. فإذا حان ميعاد انصراف الموظفين بقى وحده يعمل إلى الغروب .. ثم يخرج إلى بيته محطما .. وكان يفكر وهو فى الطريق فى عمل الغد ..
ولم يكن تحمسه الشديد للعمل يصدر عن شعور إنسانى ونفس كريمة .. فقد كان بليد الحس أنانيا لا يفكر إلا فى أمر نفسه ولا يعنيه من أمر المرضى أو الضعفاء أى شىء .. وإنما كان لتلذذه المطلق من مجرد حصر الأرقام وانتشار الوباء ليضاعف عمله ويحوز رضاء الرؤساء ..
وكانت حياته رتيبة مملة بين المكتب والبيت .. وكانت متعته الوحيدة فى أن يذهب مساء كل خميس إلى مقهى فى حى السيدة زينب ويجلس مع زملائه الموظفين يتحدث عن الغلاء وأسعار الحاجيات واختفاء الطماطم من السوق .. ثم ما يلبث أن ينتقل الميكروب الأبدى إليهم جميعا فيدور الحديث عن الكادر والعلاوات والترقيات إلى ما بعد منتصف الليل .. وكان أفق حياته ضيقا فهو لم يقرأ فى حياته كتابا علميا أو أدبيا .. كما أنه لم يشتر صحيفة سيارة بقرش أو بنصف القرش .. وكان لا يعرف من أحوال الدنيا إلا ما يدور على السنة العوام ..
وكان بؤسه قد حصره فى دائرة مفرغة فهو لا يفكر فى شىء مما يجرى فى العالم الخارجى .. ولا يعرف شيئا عن أحوال بلده .. وتروح الوزارات وتجىء وهو لا يدرى متى سقطت هذه وقامت تلك ..
وكان لا يعنيه أتقدمت بلاده فى ركب الحضارة أم تأخرت إلى الوراء آلاف السنين ..فقد حطم البؤس نفسه وجعلها عفنة خربة .. وعندما يتحدث الناس أمامه عن الإصلاح والتقدم الاجتماعى والتغلب على الفقر والمرض .. كان ينظر إليهم بوجه صامت كأنه يستمع إلى محاضر عن نظرية النسبية أو إلى حوار عن مشكلة الاسترلينى والبلاد الواقعة فى منطقة الدولار ..!!
وعندما يجىء الصيف .. يحل موسم الأوبئة ويحل موسم الترقيات .. فكان عبد الستار أفندى يظل طوال الوقت يدور فى الديوان يسأل عن الحركة ..
ـ متى تظهر .. متى ..؟
فإذا وجد أحد الموظفين يحادث زميلا له فى ممشى الوزارة تصوره يتحدث عن الحركة فيقف ليسمع ..!!
وإذا وجد الفراشين مجتمعين تصور أنهم يتحدثون عن الحركة أيضا فيمر بجوارهم ينصت ويسمع ما يدور من حديث ..
وكان يخرج من حجرة ويدخل فى أخرى ويسأل هذا .. ويحادث ذاك حتى أصابته لوثة من جراء الحركة وغدا كالمخبول ..
وبعد طول انتظار ظهرت الحركة ولم يكن فيها .. فصعق .. واشتدت سخرية رفقائه به .. ثم مرت الأيام وعاوده الأمل من جديد وانتظر الحركة الثانية .. ومرت الحركة الثانية .. والثالثة .. والرابعة .. وهو منسى لا يذكره أحد ..!
وجاء صيف .. وظهرت الكوليرا واشتد نشاطه وعمله وكفاحه .. وظهر هذا الوباء أول ما ظهر فى بلدة القرين .. وانتشر منها فى رقعة الدلتا ثم زحف إلى الصعيد ..
وظلت مكاتب الأوبئة تعمل ليلا ونهارا وعبد الستار أفندى على رأسها .. واقترب موعد حركة الترقيات الجديدة .. وترقب عبد الستار أفندى وقلبه ينتفض .. وأخذ يذرع طرقات الوزارة كالمجنون .. وسمع أخيرا أنها ستوقع بعد الظهر فظل فى المكتب من غير طعام .. ولم تظهر فى المساء فبارح المكتب ..
*** 
وفى صباح اليوم التالى نهض مبكرا .. وكان أول من دخل الديوان ووجد ملفا صغيرا على مكتبه .. كان ملفه الشخصى فطار قلبه فرحا .. وتصور أن فى الملف كتاب الترقية ..
وتجمع حوله الموظفون ..
وفتح الملف بلهفة .. وقرأ :
" نظرا لصالح العمل قررنا نقلكم إلى مكتب صحة القرين "
========================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان بتاريخ 11/7/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة " سنة 1953
=========================  









عندما تحب النساء

كانت ناهد من أعز صديقاتى .. كانت صغيرة ويتيمة .. ومشرقة وضاحكة كالشمس .. وحلوة ندية كورد الربيع ..
وكانت والدتها تسكن فى بيتى فى غرفتين صغيرتين على السطح .. وكانت فقيرة تعيش عيش الكفاف وقد توفى زوجها .. وبقيت تعيش على ذكراه عفيفة طاهرة .. رغم كل ما نزل بها من محن .. ورفضت الزواج مع أنها كانت شابة وجميلة لتربى ابنتها ناهد ولا تذلها ..
وكانت ناهد تمضى معظم وقتها فى شقتى تلعب مع أولادى ..
وكانت أكثر الأطفال حركة ومرحا .. وكانت مثال الطفولة البريئة الحلوة .. وكانت تخرج معى كل صباح إلى المدرسة .. وتظل تتحدث فى الطريق فى مختلف الشئون .. وكنت ألاحظ أن عقلها أكبر من سنها وعواطفها أكبر من جسمها .. وكنت أسر لهذا النضوج المبكر ..
وفرغت ناهد من دراستها الثانوية واستكملت أنوثتها .. وأشرقت وسامتها وخافت عليها أمها من الفتنة والغواية فى الطريق فاحتجزتها فى المنزل فى انتظار عريس لها .. وكان منتهى أمالها أن تزوجها وتجنى ثمرة غرسها طوال هذه السنين .. ولكن القدر عاجل الأم قبل أن تتزوج الفتاة .. وأصبحت ناهد وحيدة .. ولا عائل لها فى الوجود فضممتها إلى كنفى .. وعاشت تحت سقف بيتى مكرمة معززة فقد كنت أحبها أكثر من فلذات كبدى .. وكانت قد ورثت عن أمها الهدوء والجمال والدعة ..
وأخذت أسعى لأحقق أمنية أمها فأزوجها وهى فى هذه السن المبكرة ..
وكان لى قريب فى مثل سنها فعرضته عليها .. فأطرقت خجلا ثم قالت " عاوزه أشوفه " ورأته فلم يعجبها .. وصرفت الشاب بالحسنى .. وجاء شخص آخر فرفضته كالأول .. وتقدم لها رجل كان يعرف والدها فهزت رأسها رافضة .. وعجبت لكل هذا الصدود .. وقلت لنفسى لا بد أن الفتاة تخص أحدا من الناس بعواطفها .. وترفض الباقين لهذا السبب .. وحدثت زوجتى لتحادثها وتعرف سرها ..
وجاءتنى زوجتى فى المساء .. وقصت علىّ خبر الفتاة ..
أخبرتنى أن ناهد تحب فعلا .. وتحب ممدوح أفندى .. وممدوح هذا شاب عاطل يسكن فى الدور الأرضى من المنزل .. ويدفع لى الإيجار شهرا ويعجز عنه شهورا .. وهو شاب تافه خامل كسول لا عمل له .. يستيقظ فى الساعة العاشرة صباحا ليأكل إن وجد طعاما .. ثم يعود إلى النوم ثانية ويستيقظ بعد العصر .. ويجلس قرب النافذة بعد أن يسرح شعره ويدعكه بالفازلين ويأخذ فى الغناء وهو ينظر إلى السيدات المارات فى الطريق والمطلات من الشرفات .. فإذا غربت الشمس خرج وجلس على باب حلاق فى الشارع إلى ساعة متأخرة من الليل ..
فإذا أغلق الحانوت أبوابه ذهب مع إخوان السوء ـ إن كان فى جيبه نقود ـ إلى ماخور من المواخير .. فإذا كان مفلسا رجع إلى البيت وأمسك بعود وأخذ " يدندن " ..
ليس بعد هذا من تفاهة ومع هذا كله فقد أحبته ناهد فكيف أفعل ..؟
تقدم إلىّ طالبا يد الفتاة فطردته .. وظلت ناهد طوال الليل تبكى .. وبقيت أسبوعا كاملا لا تأكل ولا تشرب حتى خفت عليها من الهلاك ومع هذا فلم أضعف وظللت رافضا .. ولكنه احتال عليها وأخذها إلى المأذون وتزوجها رغم أنفى ..
وبعد شهرين من الزواج هجرها .. ولا تدرى أين ذهب .. وكانت خجلى من فعلتها فلم تشك لأحد وظلت صامتة ساكنة .. وذبل جسمها .. وجف عودها .. وعصرتها الآلام عصرا ..
ثم ظهر ممدوح فجأة كما اختفى فجأة .. وفى غمرة سعادتها بعودته لم تسأله أين كان ولماذا يتركها وحيدة ..؟ لم تسأله عن شىء من هذا وإنما ارتمت فى حضنه وأخذت تبكى .. بكاء الفرح ..
ولم يدم فرحها طويلا .. فبعد أسابيع قليلة رأيتها جالسة مع زوجتى وكانت تبكى فقد طلقها ممدوح ..
ورجعت إلى بيتى وعاشت كما كانت من قبل أن تتزوج مكرمة محبوبة من الجميع ..
ولكنها كانت لا تفتأ تسأل عن ممدوح وتتقصى أخباره ..
وكانت تخرج لتبحث عنه وقالت لى ذات يوم إنها رأته فى سيدنا الحسين .. وأنه نحف وهزل ..
" مسكين "
ولم تقل لى أنها أعطته كل ما معها من نقود فى ذلك اليوم لأنها خافت أن أثور عليها ..
وفى أصيل يوم رأيت ممدوحا يدخل المنزل .. وقابلته ناهد ولم يمكث معها أكثر من خمس دقائق .. وذابت تحت تأثير نظراته وخرجت معه إلى مكتب المأذون .. ورجعت زوجته ..
وبعد أيام قليلة سرق حليها واختفى .. فقلت لناهد وأنا أتميز غيظا :
ـ سأبلغ البوليس .. ولأنى أعرف أنك ضعيفة .. فسأقول إن الحلى ملك لزوجتى ..
ـ وتسجنه ..؟
ـ طبعا .. وهل يصلح أمثاله إلا السجن ..
وهممت بالخروج .. فتعلقت بثوبى وأخذت تتوسل وتبكى .. وتقول فى خلال دموعها :
ـ ليه .. حرام عليك .. دا مسكين ..
ونسيت حليها .. ونسيت بؤسها .. ونسيت مصيرها .. وفكرت فيه فقط ..
ولما فرغ جيبه من النقود .. عاد وظهر فى أفق حياتها مرة أخرى واستقبلته بالعناق والغفران ثم عاوده الحنين إلى التشرد والبوهيمية فترك المنزل وبعث لها بورقة الطلاق ..
ونزل عليها الخبر فى هذه المرة نزول الصاعقة وأذهلتها الصدمة .. فأصيبت بالشرود ثم أفاقت ورجعت إلى نفسها وأخذت تلعنه وتسبه :
ـ أنا .. أرجع إلى هذا الصعلوك ..!! أبدا ما دمت حية على ظهر الأرض .. أرجع إلى هذا المتشرد .. أبدا هذه آخر مرة .. كيف كنت عمياء .. كيف كنت مغفلة .. حتى أرضى به زوجا .. أتزوج متشردا سكيرا حقيرا يقضى النهار والليل نائما ولا يقوم بأى عمل فى الحياة .. الحمد لله الذى رحمنى من ذريته .. وإلا كانت الطامة الكبرى .. ومات الأطفال جوعا وهم فى المهد .. كيف يعيش مثل هذا الصعلوك .. كيف يعيش ..؟ ومن الذى يطيق عشرته ..؟ من .. من ..
***
ومرت شهور وكانت ناهد خلالها هادئة مستريحة البال وخيل إلىّ أنها تخلصت من ذلك السرطان إلى الأبد ..
ورجع ممدوح إلى بيته ولكنها ظلت بعيدة عنه فلم تنزل إليه ولم يصعد إليها .. وسررت لهذا جدا ..
ثم رأيتها ذات يوم وأنا داخل البيت خارجة من شقته .. فذهلت واضطربت .. وضبطت أعصابى .. وسألتها فى هدوء :
ـ كيف تفعلين هذا .. تعاشرينه وأنت مطلقة .. لقد كانت أمك مثال الطهر .. كيف يحدث هذا ..؟
فصمتت ونكست رأسها .. ثم رفعت أهدابها وقالت بصوت خافت :
ـ ولكننى لست مطلقة ..
ـ رجعت مرة أخرى إلى هذا الصعلوك التافة ..؟
ـ أجل وأنا أحبه لهذا .. أحبه لأنه صعلوك تافه .. متشرد ..
========================= 
نشرت القصة فى صحيفة الزمان بتاريخ 29/8/1950
======================== 








فى منزل المقامر

جلست أمينة فى شرفة منزلها تتطلع إلى النجوم البراقة فى ليلة حالكة الأديم .. وكان الوقت صيفا والجو لايزال حارا رغم أن الليل قرب من منتصفه ..
وكانت قد استراحت على كرسى طويل ومدت رجليها وأغلقت عينيها محاولة النوم .. ولكن هيهات أن يأتيها النوم وفى بيتهم كل هؤلاء الرجال الغرباء الذين يلعبون القمار مع والدها ووالدتها فى غرفة الطعام .. ويظلون فى لعبهم وصخبهم إلى الساعات الأولى من الصباح .. وبعض الأحيان ينام منهم اثنان أو ثلاثة فى البيت ..
كانوا يأتون كل ليلة .. وبعضهم كان يصحب معه زوجته .. وكانوا يتعشون ويشربون الخمر على الطعام .. ثم ترفع مائدة الطعام وتوضع مائدة القمار .. وتستمر اللعبة المجنونة دائرة إلى الصباح ..
وكانت أمينة تحاول أن تبتعد بكل نفسها وجسمها عن هذا الجو .. فتجلس فى الشرفة وحيدة .. ولكن والدها كان يطلب فى كل ساعة .. قهوة .. فكانت تذهب إلى المطبخ وتصنع لهم القهوة لأنه ليس فى البيت سوى خادمة صغيرة تنام من الغروب .. وكانت تدخل عليهم حاملة الصينية وتوزع " الفناجين " فمنهم من يشكر ومنهم من يكون لاهيا عنها بما فى يده من أوراق اللعب ..
وكانت تشعر بانقباض شديد وهى فى داخل الغرفة .. وقد تعاقدت سحب الدخان الأزرق فى جوها .. وبدت منافض السجائر وزجاجات الخمر والكؤوس الفارغة .. متناثرة على المائدة .. وكانت تتنفس الصعداء عندما تعود إلى مكانها من الشرفة ..
وكانت أختها الصغرى ثريا لاتزال طالبة .. وكانت أمينة تحرص دائما على راحتها وتغلق عليها غرفة صغيرة فى البيت لتنام وتستذكر فيها .. ولكن الفتاة لا تستطيع أن تستذكر فى هذا الجو .. فكانت تترك منزلها وتعود متأخرة وكانت أمينة تقوم بعمل البيت كله .. فأمها مشغولة بالقمار وأختها ثريا مشغولة بدروسها ..
وكانت أمينة أول من يستيقظ فى البكور .. فإذا مشت فى البيت تجد واحدا نائما على الكرسى فى الصالة .. وآخر ممددا على حشية فى غرفة الطعام .. وثالثا يضع رأسه بين يديه وقد اعتمد بمرفقيه على المائدة وأغلق عينيه وراح فى سبات عميق ..
وكانت تنتظر أن يستيقظ هؤلاء الرجال الغرباء .. ويبرحوا المنزل ثم تأخذ فى تنظيف البيت من آثارهم ..
وبعد الظهر يصحو والدها .. ويأخذ فى طلباته المتكررة .. شاى .. اسبرين .. شاى .. اسبرين .. شاى .. ثم تنهض والدتها بجسمها المكتنز ووجهها المستدير وقامتها القصيرة .. وتأخذ فى مساعدة ابنتها فى وضع طعام الغداء على المائدة .. وتجلس الأسرة حول المائدة وتأكل فى صمت ..
وكانت أمينة تنظر إلى والديها فى اشمئزاز .. وكانت نظرتها أشد كرها إلى والدها فهو الذى جرأ والدتها على أن تجلس مع هؤلاء الرجال الغرباء وتلعب القمار حتى نسيت شئون البيت ونسيت نفسها وانساقت إلى الهاوية ..
ويشرب الأب القهوة .. وتأخذه نوبة سعال حادة .. فيطلب جرعة من الدواء .. ثم يأخذ فى الشجار مع زوجته لأنها كانت السبب فى خسارته الليلة الماضية .. لأنها منحوسة ولأنها غبية .. ولأن نهارها كليلها كله سواد فى سواد ..
وفى الغروب تتزين ثريا وتخرج .. ولا أحد يسألها .. إلى أين ذاهبة ..
وبعد نصف الليل تعود ..
وكان شر ما يصيب أمينة أنها لا تستطيع أن تنام ليلة واحدة فى فراشها .. كانت حجرتها مشغولة دائما .. وكان النعاس يأخذها وهى جالسة فى الشرفة .. فإذا أحست بالتعب الشديد انتقلت إلى كنبة فى الردهة ونامت إلى الصباح ..
ولم يكن والداها يحفلان بها ولا كانا يحرصان على شىء فى البيت سوى ورق اللعب ومائدة القمار ..
وكانت تحزن لأن أختها ثريا تتأخر فى العودة من الخارج .. وقد ترك لها الحبل على الغارب ..
وكانت ثريا تكذب وتنتحل الأعذار لتأخيرها .. ولكن أمينة لم تستطع أن تفعل شيئا لأن والدها قد نفض يده .. ولم يعد يعنيه أى شىء يتعلق ببناته ..
وكان لها أخت ثالثة أكبر منها ومتزوجة .. ولكن زوجها منعها من زيارة هذا البيت المنحط .. ومنع والديها من دخول بيته ..
وكانت أمينة تعرف أن أمها انزلقت وجرفها التيار .. وأختها ثريا تقف على حافة الهاوية .. أما هى فلا تزال بعيدة عن الدنس رغم كل ما يحيط بها من أخطار .. ورغم ما فى جو حياتها من يأس .. فقد كبرت وتعدت سن الزواج ..
***
وذات ليلة جلس اللاعبون حول المائدة الخضراء كالعادة .. واستمر اللعب إلى الهزيع الأخير من الليل .. حتى انقطعت المواصلات فى تلك الضاحية .. منشية البكرى .. وطويت المائدة ونام اللاعبون حيثما اتفق .. على الأرائك والمراتب المفروشة على الأرض .. وعلى البساط ..
واستيقظ مدحت وهو أحد اللاعبين المترددين على المنزل ومن أصدق أصدقاء الوالد .. وكان شابا فى الأربعين من عمره .. طويل الجسم .. وثيق التركيب .. وفى وجهه آثار جرح قديم .. وكان من أكثر الموجودين حماسة للمقامرة وأشدهم خسارة ..
استيقظ وهو شاعر بالعطش .. فنهض واتجه إلى دورة المياه ليشرب من الثلاجة وكان يعرف مكانها .. وأشعل نور الردهة ورأى وهو يجتازها أمينة نائمة .. على كنبة هناك .. وكانت مستغرقة فى النوم .. وقد ارتدت قميصا أبيض .. انحسر عن الساقين والذراعين والنحر العاجى .. ورماها بنظرة عابرة ثم دخل المطبخ .. وشرب وخرج وعبر الممشى .. وعندما بلغ الطرقة توقف .. واستقرت عيناه على الفتاة النائمة .. وأحس بمثل التيار الكهربائى يسرى فى جسمه .. ووجد يده تزحف على الحائط وأغلق النور .. ووقف فى الظلام يتصورها فى مكانها من الفراش .. وقد خيم السكون واشتد الظلام واستغرق جميع من فى البيت فى نوم عميق ..
كان يرى أمينة رائحة غادية فى البيت وكلها أنوثة وفتنة ولكنه كان فى شغل عنها بالشىء اللذيذ الذى يستغرق حواسه كلها ويأسرها بالقمار .. أما الآن بعد أن فرغ من القمار فقد شعر بمثل النار تسرى فى ألياف لحمه ..
واقترب منها .. وتحسس بيده ذراعها العارية .. ثم انحنى ووضع فمه المخمور على فمها وتنبهت الفتاة مذعورة .. وحدقت فيه فى الظلام .. وكادت تخرج من فمها صرخة .. ولكنه وضع يده على فمها وطوقها .. وهمس :
ـ أنا مدحت .. والكل نايمين ومتفضحيش نفسك ..
ـ يا مجرم .. يا كلب .. سيبنى ..
ـ من زمان .. وأنا أتمنى هذه اللحظة .. من زمان ..
ـ يا مجرم .. سيب .. حاقول لبابا .. يدبحك ..
ـ بابا .. هيه .. هيه .. أنت حسنة الظن خالص .. أنه يبيعك بريال واحد ليلعب القمار ..
واشتد ضغطه عليها فقاومته بعنف .. وأمكنها أن تتخلص منه وصرخت بأعلى صوتها ..
واستيقظ من فى البيت وهرعوا إليها .. ووجدوها واقفة بجوار الفراش وقد تمزق قميصها .. وإلى جانبها مدحت منكس الرأس ووجهه ناطق بفعلته ..
ونظر والدها إليها وإلى الرجل ولم يقل شيئا .. كان يتصور أن كل شىء يمكن أن يحدث فى البيت إلا هذا .. فلم يخطر له قط على بال ..
 ووقف شاردا مصعوقا لحظات وعيناه تحدقان فيما حوله ولكنه لا يبصر بهما شيئا .. ثم انسحب من مكانه ودخل غرفته وأغلق عليه بابه ..
وتسلل الرجال الغرباء إلى الخارج فى سكون دون أن ينطق واحد منهم بحرف ..
وخيم سكون القبر على البيت مرة أخرى ومضت دقائق .. ودقائق .. ثم سمع دوى رصاصة فى الغرفة المغلقة ..
وسمع بعدها سكان الحى صياح الأرملة وبناتها على الرجل الضائع ..
======================= 
نشرت القصة فى صحيفة الزمان بتاريخ 5/9/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة " سنة 1953
========================  


























سارق النساء

عدت إلى " كونستنزا " بعد رحلة قصيرة فى الدانوب وذهبت إلى الكازينو القائم على سيف البحر كعادتى فى كل ليلة .. فقد كان هو الملهى الوحيد فى المدينة الذى يباح فيه القمار بكل ضروبه وأشكاله كما كان ملتقى الحسان من غانيات الدانوب .. وفاتنات بخارست .. وفينا ووارسو .. فى ذلك الفصل من السنة .. ولم أكن أذهب إلى الكازينو لأقامر .. وإنما كنت أذهب لأشاهد صرعى هذه اللعبة الجهنمية .. الروليت .. وأجد السبيل إلى الاختلاط بالفتيات اللواتى يعز علىّ ولا يشترك لقاؤهن فى غير هذا المكان ..
ووقفت على مائدة من موائد الروليت .. أرقب العجلة الدوارة وأتنبأ فى صوت كالهمس بالأرقام الرابحة .. وفى معظم المرات كانت تصدق فراستى .. فتحولت إلىّ الأنظار .. وتقدم إلىّ شاب كان يقف حول المائدة مثلى وسألنى بلهجة الرجل المؤدب :
ـ لماذا لا تقامر .. مادمت تتنبأ بالأرقام الرابحة دائما ..؟
ـ إننى لا أحب القمار ..
ـ ألم تجرب حظك ..؟
ـ أبدا ..
ـ لو لعبت لاستهويت من ترى حولك من النساء الفاتنات فلا شىء يأخذ بلب المرأة كالرجل المقامر ..
ـ فى هذه الحالة سأغدو مقامرا .. وسيصيبنى النحس الذى يلازم المقامرين عادة ..
ـ هذا صحيح إلى حد بعيد ولكن جرب حظك مرة ..
وأخرجت ورقة بخمسمائة لاى ووضعتها على رقم 7 وربح الرقم ثلاث مرات متتاليات .. وقلت لصاحبى وأنا أضع الأوراق المالية فى جيبى :
ـ يكفينى هذا الليلة ..
وظل فى مكانه مدة .. ثم مضى إلى مكان آخر من القاعة ..
ولاحظت أنه حسن الهندام أنيق المظهر متئد الخطى .. وكان طويل القامة جميل المحيا ..
ولما دخلت قاعة الرقص عند منتصف الليل وجدته هناك .. وكان يرقص مع أجمل من رأيت من النساء .. وكانت المرأة واضعة رأسها على صدره وعيناها مغمضتان كأنها فى غيبوبة .. وهو يدور بها فى كل اتجاه .. ولما اقترب منى وأنا جالس وحدى حيانى بإيماءة خفيفة من رأسه .. وابتسامة مشرقة من فمه .. فرددت التحية وعيناى لا تفارق السيدة التى تراقصه .. فقد كانت تحلى جيدها بعقد من الجواهر النادرة .. وأنا مولع بهذه الجواهر أكثر من أى شىء فى الحياة .. وكنت أود لو أدعوها للجلوس معى لأفحص هذا العقد عن قرب وأتبين مافى صنعه من روعة .. ولكن بعد أن كفت الموسيقى عن العزف وانتهت الرقصة .. خرج بها من القاعة ..
***
وفى صباح ذات يوم بينما كنت أهبط درجات الفندق رأيته يغادر غرفة فى نهاية الطرقة .. فأدركت أنه يقيم فى نفس الفندق .. وأصبحت أراه بعدها فى الكازينو .. وفى بلاج " مامايا " .. وفى كارمن سيلفيا .. وكنت أشاهده كل يبوم بصحبة حسناء جديدة ..
وفى ليلة من الليالى لعب الروليت فى الكازينو وخسر كثيرا .. ولكننى لاحظت أنه لم يبتئس .. وكان يضحك كعادته .. ويرقص مع فتاة نمساوية من المصيفات الجدد .. ولما انتهى الرقص خرج بها إلى الفندق ..
وبعد يومين شاهدته وأنا جالس فى شرفة الفندق داخلا من الباب الدوار .. ولما لمحنى أقبل نحوى باسما .. فسلمت عليه ودعوته للجلوس .. فجلس وشرب القهوة .. وأخرج علبة ذهبية أنيقة وقدم لى سيجارة .. فأشعلتها وسألته :
ـ السيد رومانى ..؟
ـ مجرى .. من بودابست .. ومن بودا بالذات .. ولكننى تركتها منذ عشرين عاما فى غير رجعة .. ولست من الآسفين .. على بودا .. ولا بست .. أننى الآن جواب آفاق .. وربما أقمت فى هذا الفندق ليلة واحدة .. وغدا أرحل .. إلى نيس .. إلى مونت كارلو .. إلى تريستا .. إلى أى مكان أجد فيه الخمر والنساء ..
ـ ألم تذهب إلى الشرق ..؟
ـ مع الأسف لا .. ومن الصعب علىّ أن أذهب لأنى لا أعرف لغتكم ..
ـ ألا تكفيك المشاهدة ..؟
ـ لا .. فإنى أود دائما أن أصل إلى أعماق الأشياء .. وعلى فكرة أتمكث هنا طويلا ..
ـ سأسافر بعد أسبوع ..
ـ ألا تود أن تبتاع هدية جميلة لزوجتك ..؟
ـ إننى غير متزوج ..
ـ لصديقتك إذن ..
ووضع يده فى جيبه وأخرج عقدا من اللؤلؤ .. ولاحظت أنه العقد نفسه الذى شاهدته فى عنق السيدة التى كانت تراقصه منذ أيام .. فأدركت أننى أمام لص خطير من لصوص الفنادق .. يستغل وسامته ووجاهته ليوقع فى حبائله من يشتهى من النساء ..
فقلت له فى هدوء وعيناى لا تتحولان عن العقد :
ـ إننى آسف فليس لى صديقة .. ولا حبيبة .. ولا أستطيع أن ابتاع هذه الأشياء الثمينة ..
ـ أنت كريم .. وأنا لا أشتط معك ..
ـ آسف فلست فى حاجة إليه اطلاقا ..
إذن خذه رهينا .. وأعطينى عشرين ألف لاى .. وسأردها لك بعد غد .. فأنا فى انتظار تحويل على البنك ..
فأخرجت محفظتى وأعطيته المبلغ .. ورفضت أن آخذ العقد كرهين .. وقلت له :
ـ خذ المبلغ كقرض ورده حين تشاء ..
فشكرنى بحرارة ووضع المبلغ فى جيبه .. وأعدت محفظتى إلى مكانها ولاحظت أنه ينظر إليها جيدا كأنه معجب بشكلها ..
***
وذات ليلة رأيت نزيلة جديدة فى الفندق .. وكانت جميلة باسمة الثغر .. وتقيم فى غرفة ملاصقة لغرفتى فسعيت إلى معرفتها .. وعرفتها وكانت بولندية .. وأخذتها معى إلى الكازينو .. وبعد منتصف الليل عدنا إلى الفندق .. وأمضت ما بقى من الليل فى غرفتى وفى الصباح الباكر خرجت .. ونمت إلى الضحى ونهضت وأنا شاعر بنشوة المغامرة التى مرت بى .. وأخذت أرتدى ملابسى .. ولاحظت وأنا أضع يدى فى جيب سترتى .. ضياع المحفظة .. فأدركت أن الحسناء البولندية سرقتنى ..
وخشيت الفضيحة فكتمت الخبر وخرجت وأنا أفكر فى مخرج .. من هذا المأزق ..
فكرت فى أن أذهب إلى القنصلية المصرية وأقترض مصاريف السفر وأرحل عن هذه البلاد .. أو أن أطلب مبلغا من القاهرة بالتلغراف .. وأخيرا رأيت أن ألجأ إلى صديق فنلندى التقيت به فى استانبول وجاء معى إلى كونستنزا ويقيم فى فندق قريب فى المدينة .. فلما ذهبت إليه علمت أنه سافر إلى بوخارست وأنه سيعود بعد يومين .. ورأيت الانتظار إلى أن يعود .. ولا شىء يدعونى إلى القلق ما دمت آكل وأشرب فى الفندق .. وأدفع الحساب فى نهاية المدة ويكفى ما فى جيبى من عملة فضية وبرنزية للجلوس على المقاهى المتواضعة فى المدينة إلى أن يأتى الله بالفرج ..
ومر يوم .. ويوم آخر .. وأخذ القلق يعاودنى .. وجلست فى شرفة الفندق وأنا شاعر بالكرب .. ولمحنى المجرى فأقبل نحوى وعلى فمه ابتسامته المعتادة .. فقلت فى نفسى إن هذا الأفاق جاء ليطلب منى مبلغا آخر وقد أغراه كرمى الشرقى على ذلك .. وجلس وشرب القهوة وأخرج علبته الذهبية وقدم لى سيجارة فتناولتها وأنا صامت .. وأخذ هو يدخن وينظر إلى الدخان الأزرق المتعاقد عند رأسه .. ثم يحول نظره إلىّ .. دون أن يتكلم ..
وأخيرا فتح فمه وقال :
ـ هل يسمح لى السيد مراد بأن يقرضنى عشرين ألف لاى أخرى .. وسيأتينى المبلغ غدا .. وأرد له نقوده جميعا وأنا له من الشاكرين ..
فنظرت إليه فى غيظ .. وعجبت كيف عرف هذا الأفاق اسمى ..
وكرر طلبه ..
فقلت له فى هدوء :
ـ آسف .. ليس معى ما أعطيه لك .. وأنا غريب كما ترى ..
ـ إذن أعطنى عشر آلاف فقط ..
ـ ولا ألف .. آسف جدا ..
ـ لقد تغيرت .. ويبدو عليك أنك مستاء .. لماذا ..؟
فصمت ولم أجب .. ونظر إلىّ مبتسما مدة طويلة .. ثم وضع يده فى جيبه .. ووضع شيئا على المائدة وقال :
ـ تفضل ..
ـ ماذا ..
محفظتك ..
وتناولت المحفظة .. ووجدتها محفظتى بعينها وعليها اسمى منقوش بماء الذهب .. وفتحتها فوجدت أن جميع ما فيها من أوراق مالية كما هو لم يمس ..
ونظرت إليه فى اعجاب ..!!
وقال وهو مزهو بعمله :
ـ كان لا بد أن أرد لك المعروف على أى وجه من الوجوه ..
وأظننى الآن راضيا عن نفسى ..
وتركنى ونهض .. وشيعته بنظرى وهو يسير متئدا بقامته ووجهه الوضاح الذى يفتن النساء ..
======================== 
نشرت القصة فى صحيفة الزمان بتاريخ 16/1/1950 وأعيد نشرها فى كتاب " حدث ذات ليلة " سنة 1953
======================== 

 










































حـدث ذات ليــلة


     حدث ذات ليلة من ليالى الصيف عام 1919 وكانت الثورة المصرية مشتعلة فى طول البلاد وعرضها ، أن نشبت المعركة بين المصريين والإنجليز فى مدينة أسيوط .. وبدأت بإطلاق النيران على معسكرات الإنجليز عند الخزان .
واحتملت قرية " الوليدية " وهى قرية صغيرة مجاورة للخزان كل أعباء المعركة .. على أن القرى المجاورة لم تتركها وحدها بل أرسلت إليها أحسن رجالها الشجعان .
     كان الرجال يأتون إليها من كل صوب على ظهر المراكب الشراعية الصغيرة والكبيرة .. ويخوضون غمار المعركة مستبسلين .
     وكنا نحارب كما يحارب الثوار فى غير نظام ولا قيادة .. ومع هذا فقد فكرنا فى أن نفعل ما يفعله المحاربون فى الميدان حقا .. فكرنا فى أن نقطع الخط الحديدى عند قرية " منقباد " لنمنع المدد والمؤن عن الأعداء وبذلك نميتهم جوعا .
     واجتمع فى قرية صغيرة على الضفة الشرقية للنيل أكثر من خمسمائة رجل من مختلف القرى مسلحين بالبنادق القديمة والحديثة والخناجر والعصى والحراب .. ومعهم خيولهم وجمالهم وحميرهم .
     ونحرت لنا الذبائح .. وجلسنــا نتعــشى فى العراء على " الطبالى " خمسة .. خمسة .. وكنا نتحدث فى حماسة بالغة ، ونلتهم الطعام على ضوء المشاعل .. ونسمع صهيل الخيل وهدير الفحول .. وعواء الكلاب فى القرية .. وكنت أرى عيون الرجال تبرق فى الظلام .. وأشاهد فى دائرة الضوء لحاهم وشواربهم الضخمة وأجسامهم الطويلة .. وكانوا يرتدون الجلابيب السمراء والزرقاء ويعصبون رءوسهم .. ويتمنطقون بالأحزمة الجلدية المليئة بالرصاص والخرطوش .
     وكانوا يمسحون أفواههم بأطراف أكمامهم ، ويشعلون لفائف التبغ .. ويشربون القهوة .. ويتحدثون عن الليل والرجال .
     وكنت مأخوذا بسحر حديثهم وبقوة شخصيتهم .. وبجبروتهم الذى لاحد له .
     كان أكثرهم من الرجال الشجعان الذين يقطنون فى الجبل الشرقى .. وقد نشأوا أحرارا أشداء .. يأبون الضيم ويدافعون عن العرين .
     وعندما وقف واحد من الطلاب وأخذ يتحدث عن الاستعمار والبلاء الأسود النازل بالبلاد .. رأيتهم ينصتون فى سكون وعيونهم تلمع ووجوههم منفعلة من فرط الغضب .. ثم أخذوا يعمرون البنادق ويشحذون الأسلحة .
     وتركنا الخيل والجمال والحمير مع الغلمان .. وعبرنا النيل إلى الضفة الغربية وهناك انقسمنا إلى فرق صغيرة اتجه بعضها إلى الخزان .. وذهبت مع فرقة مكونة من ثمانية عشر رجلا من الرجال الأشداء إلى " منقباد " لنقطع الشريط الحديدى وكنت على رأس هذه الفرقة .. وسرنا حذاء النيل على الرمال الناعمة .. وكان الليل فى أخرياته والظلام شاملا والسكون رهيبا .. ثم انحرفنا عن الطريق السوى وسرنا وسط الحقول .. وكانت السماء كابية والريح تزأر فى أخصاص " البوص " التى مررنا بها .. ولما صعدنا المنحدر واقتربنا من الخط الحديدى بدا صوت اقدامنا يسمع بوضوح فى هذا السكون العميق .. وتقدمنا فى قلب الليل  ولما بلغنا الجسر كان الشريط يلمع ملتويا فى الظلام .. وكانت أعمدة البرق وأسلاك التليفون تهتز والريح تصفر فى جنبات الوادى المقفر .. وعندما أخذت أرجلنـا تضرب على الزلط الذى يتخلل القضبان .. شعرت بعظم المهمة الملقاة على عاتقى وانتابتنى الرهبة .. وأخذت المكان بنظرة خاطفة  وأعطيت الإشارة للرجال .. وبدأت المعاول تعمل .. وبعد قليل فرغنا من مهمتنا وقفلنا راجعين .
***  
      تفرقنا فى قلب الليل كالذئاب بعد أن تنفض مخالبها من الفريسة .. وسرت وحدى وسط الحقول .. وكان الليل ساكنا وأشجار النخيل تخيم من بعيد على قرية " الوليدية " وتغرقها فى لجة من الظلام الشديد .. وكانت الكلاب لاتزال تنبح فى الحقول .. والديكة تصيح فى أكواخ الفلاحين معلنة طلوع الفجر .. وعندما بلغت طرف القرية الشمالى شعرت بالجوع والنعاس فتمددت فى ظل شجرة كبيرة من أشجار السنط .. وأخذنى النوم واستيقظت على دوى الرصاص .. وكان اليوم الثالث للمعركة بيننا وبين الانجليز .. فذهبت إلى الميدان وظللت أقاتل حتى المساء . 
     وفى اليوم الخامس ظهرت طيارة فى السماء .. وأخذت تلقى القنابل على غير هدف .. وذعر الناس ولم يكن لنا بها عهد ..
      وحملنا بنادقنا فى أيدينا وأخذنا نهيم على وجوهنا فى الأرض .. وأخذت المراكب الشراعية تعود بالمحاربين إلى ديارهم ..
      وكان الوجوم والتعاسة والخيبة المرة مرتسمة على الوجوه ، وكنا نحن الشبان الأشداء نغلى غيظا فلم نكن ندرى علة هزيمتنا .. لقد بدأنا المعركة كجنود من الطراز الأول وعندما كففنا عن النار خيل إلينا أننا قد انتهينا .. ولكننا مع هذا لم نلق السلاح .
***  
     وخمدت الثورة فى القاهرة وأرسل الإنجليز فرقة جديدة إلى أسيوط .. وكانت ترابط عند الخزان فى حديقة كبيرة هناك .. وكانوا يخرجون من معسكراتهم فى الليل سكارى ويشتبكون فى عراك مع الأهالى .
     وكنت قد هجرت قريتى وأخذت أمضى الليل فى بستان صغير قريب من " الوليدية " لأن الإنجليز انطلقوا يفتشون القرى فى الشرق ، باحثين عن الأسلحة ورجال الثورة .
     وذات ليلة جلست كعادتى فى البستان .. وكان بجواره طريق صغير ينحدر إلى النيل ومنه تنزل الفلاحات لملء جرارهن .. وكن يحملن الجرار على رءوسهن وينزلن إلى الماء .. ويشمرن عن سواعدهن ويرفعن أطراف ثيابهن ، وتبدو سيقانهن البللورية وهى تغوص فى اللج .. وعندما يملأن الجرار ويطلعن على اليابسة يتركن ثيابهن تنسدل وشعرهن يهتز فى ضفائر على ظهورهن .. والخلاخيل الفضية تبدو فى السيقان الممتلئة وهن صاعدات المنحدر .
     ومر فى الطريق بعض الجنود الإنجليز .. وأخذوا فى معابثة النساء الخارجات من الماء .. وطار هؤلاء مذعورات وتركن الجرار تسقط وتتهشم .. وأمسك واحد منهم بواحدة من يدها ورأيته يعابثها ويهم بتقبيلها وهى تصرخ وتستغيث ، وتملكنى غيظ مستعر وأنا أشاهد هذا المنظر .
     وتجمع الأهالى واشتبكوا فى عراك دموى مع الإنجليز .. ورأيت أحد الجنود يخرج مسدسا ويطلق النار كالمجنون .. وكان الأهالى عزلا من السلاح .. فأخرجت بندقيتى من مكمنها .. وسددتها وسقط .. وأطلقوا النار فى كل اتجاه .. فأصابتنى رصاصة فى ساقى ولكننى تحاملت على نفسى وزحفت فى الظلام .
     وفرغت الشوارع من المارة بعد دقيقة واحدة .. وخيم سكون القبور على كل شىء ، وأخذ الظلام يشتد ، وسمعت وأنا ممدد فى مكمنى حركة فى طرف البستان .. ثم ظهرت عن بعد داورية إنجليزية تفتش فى كل مكان وبدا لى أنهم أخذوا يطوقون البستان .. فأسرعت وربطت ساقى بقطعة من القماش نزعتها من ثوبى بعد أن حشوت الجرح بالتراب .. وزحفت فى حذر .. ودارت عيناى فيما حولى تبحث عن ملجأ فى هذا الظلام .
     وشاهدت منزلا صغيرا على النيل فاتجهت نحوه وأنا مدفوع بقوة لاقبل لى بها .. ودفعت الباب ودخلت .. وسمعت صوتا نسائيا يقول :
     ـ مين ..؟
     ـ أنا ..
     ورأيت امرأة فى صحن الدار .. وكانت تلبس جلبابا أسود .. وعلى رأسها منديل أسمر .. ونظرت إلىّ فى هلع وأنا داخل بيتها وبيدى البندقية وعلى وجهى الشر .
     وقالت بصوت مرتجف :
     ـ مالك ..؟
     ـ جريح .. وعطشان ..
     ودخلت ومشت إلى الداخل دون أن تنبس ، وعادت بعد قليل بكوز فتناولته منها ورفعته إلى فمى مرة واحدة .. وسمعت حركة شديدة ولغطا فى الشارع .. فانزويت خلف الباب وأمسكت البندقية فى يدى .. وتهيأت لكل الطوارىء .. ووقفت المرأة تنظر إلىّ من بعيد وهى مضطربة واجمة .
     وسمعت طرقا شديدا على الباب .. فلم يرد أحد .. وخيم السكون لحظات .. ثم سمعت من يقول بصوت عال :
     ـ دا بيت حميدة .. يا شيخ الخفر .. وهيا مسافرة ..
     ـ مسافرة ..؟
     ـ أيوه .. مسافره بحرى .. من مدة ..
     وبعد الصوت .. وخيم السكون من جديد فتنفست الصعداء .. ورجعت إلى صحن الدار وأنا أتحامل على نفسى وتمددت هناك .. ونظرت إلى المرأة طويلا ولم تقل شيئا .. فقلت لها :
     ـ لاتخافى .. سأستريح قليلا ثم أذهب .. متى فرغوا من التفتيش
     ـ ولماذا تخاف أنت ..؟
     ـ البندقية .. وأنت تعرفين الأحكام العسكرية ..
     ـ هاتها .. وأنا أخبئها فى مكان لايعرفه أحد ..
     فقلت لها وأنا أبتسم :
     ـ إنها سلاحى .. وأنا لا ألقى السلاح ..
     فهزت كتفها ووقفت ساكنة وبعد قليل تحركت نحو الباب الخارجى .. فقلت لها بصوت هادىء :
     ـ إلى أين ..؟
     ـ سأشترى بعض الأشياء من السوق ..
     ـ مكانك .. لن تبرحى هذا البيت ما دمت أنا فيه ..
     ـ إنك مجنون ..
     قالت هذا واحمر وجهها غضبا .. وظلت واقفة فى مكانها بجانب الباب .. ثم استدارت ومشت إلى الداخل .. وعاد إليها بعض الهدوء ..
     وقالت مبتسمة بصوت رقيق :
     ـ ألا تعرفنى ..؟
     ـ أبدا..
     ـ أنا حميدة الغربية .. بياعة القماش .. وأنت من بنى مر .. وأنا أعرفك جيدا .. واسمك عبد الرحمن المرى ..
     فذهلت .. كيف عرفت اسمى ..
     واستطردت :
     ـ لقـد ذهبت إلى منزلكم فى غرب البلد مرارا .. ألا تذكرنى ..؟
     وتذكرتها بخالها الأسود على خدها الأيمن .. وبعينها العسليتين وابتسامتها الحلوة .
     ـ عرفتنى ..؟
     ـ أيوه ..
     ـ سيبنى أطلع بره ..
     ـ لأ..
     وجلست على الأرض أمامى .. وكان المصباح البترولى الصغير تهتز ذبالته وبريق الضوء على وجهها الصبوح ، وكان ثوبها الأسمر يلف جسمها الممتلىء ، ومنديلها يغطى جزءا من شعرها .
     وأخذنا نتحدث حتى مضى جزء كبير من الليل .. وكنت أتصور أنها تمهلنى لأنام .. ومتى نمت خرجت ، ولهذا ظللت ساهرا لاتغمض لى جفن .. وذهبت هى إلى فراشها ..
     وفى الصباح ابتدرتها بقولى :
     ـ حميدة .. هاتى مفتاح الباب الخارجى ..
     فأعطتنى المفتاح وهى صاغرة ووضعته تحت رأسى ..
     ومكثت معها ثلاثة أيام .. وظلت محبوسة قلقة مضطربة وزادها الحبس اضطرابا وعصبية وكاد ما فى البيت من خبز وإدام أن ينفد وجعلها هذا أكثر قلقا .. وكانت ترمينى بنظرات نارية وتبتعد عنى ما أمكن ..
      ولما نفد معين صبرها قالت لى بصوت خافت :
     ـ أنا عارفة ..
     ـ عارفة إيه ..؟
     ـ القاتل ..
     وانتفضت ..
     ومضت تقول فى خبث ظاهر :
     ـ لقد رأيته بعينى هاتين من سطح البيت .. وكان فى البستان ..
     وتحركت من مكانى أزحف على قدمى ، وعيناى ترميانها بنظرات ملتهبة .. واجتاحتنى موجة من الغضب جارفة عارمة .. عندما تبينت أنها تعرف سرى كله .. وأننى معلق فى حبل المشنقة ، وهى التى تمسك بيدها الحبل .. وإن شاءت جذبته وطوقت به عنقى ..
     وأمسكت بقبضتها وجذبتها نحوى
     وقالت بصوت راعش :
     ـ سيبنى يا مجرم .. سيب ..
     ودارت يدى حول رسغها .. وشددتها إلىّ .. وكنت قد نهضت نصف قومة .. فدفعتنى بيدها إلى الوراء بقوة .. وقد تدحرجنا على الأرض فطوقتها بذراعى ، وأخذت أضرب وجهها وجسمها ضربا مبرحا ، وأخذت تبكى بصوت مكتوم وتضربنى ما وسعها الضرب .
     واشتبكنا فى عراك طويل .. ولم تعد بى قوة على الامساك بها فأطلقتها .. فنهضت وعيناها مخضلتان بالدمع .. وكان شعرها منفوشا ووجهها محتنقا .. ودارت فى صحن الدار كالمجنونة ثم بصرت بقالب فى " الكانون " فأسرعت ورمتنى به .. وحط القالب على صدغى وغبت عن الوجود .
     ولما فتحت عينى كان الظلام يخيم .. وكان الدم يلطخ وجهى وثوبى .. وكانت حميدة جالسة عند رأسى تمسح الدم بمنديلها ! ولما شعرت بأننى تنبهت حركت يدها فى لين ورفق على جبينى ، ثم أخذت تتحسس ذراعى .. وقربت وجهها من وجهى ونظرت طويلا فى عينى .. ثم ارتمت على صدرى ، وطوقتها بذراعى ورحنا فى عناق طويل .
     ولما التأم الجرح وقويت على السير خرجت فى ظلام الليل مودعا حميدة وكانت فى لباسها الأسود وعلى رأسها منديلها وخرجت معى إلى الزورق الذى أعدته لى ..
     ولما تحرك الزورق بى وقفت على الشاطىء تمسح عبراتها .. فتحولت بوجهى عنها ، وأنا أغالب عواطفى واتجهت إلى الشرق ..
================================  
نشرت فى مجلة قصص للجميع 14/11/1950وأعيد نشرها فى مجموعة " حدث ذات ليلة " لمحمود البدوى 1953 وفى مجموعة قصص من الصعيد من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى عام 2002
================================= 



















المايسترو

صعدت إلى الطابق الثانى من سينما ريفولى فى ليل من ليالى الشتاء .. وكانت الساعة لم تبلغ التاسعة بعد .. فأخذت أتمشى فى البهو الخارجى وأنظر إلى الحسان الصاعدات السلم إلى الشرفات وهن فى حفل من الزينة .. وكانت الليلة الثانية من ليالى فرقة فينا فيلها رمونيك وكان الزحام على أشده فقد كانت هذه هى المرة الأولى منذ سنوات التى تأتى فيها فرقة من هذا الطراز إلى القاهرة .. كما كانت الحفلة أحسن معرض للسيدات لعرض أزيائهن وأناقتهن فى هذا المجتمع الحافل ..
وأخذت أروح وأجىء فى البهو حتى سمعت رنين الجرس المتواصل يؤذن بابتداء الحفلة فهرع الناس إلى القاعة ومشيت معهم .. ورأيت وأنا داخل وجه رجل أعرفه يدخل القاعة من الناحية الأخرى فى مواجهتى .. واتجهت نحوه حتى اقتربت منه .. ومددت يدى إليه مسلما ووجهى ناطق بالسرور للقائه .. فقد كان زميلى فى المعهد الشرقى للموسيقى وأقرب الناس إلىّ وألصقهم بى .. فرفع إلىّ وجها صامتا كأنه ينكرنى .. ثم عاد فتذكر ومد يسراه مصافحا وعلى فمه ابتسامة خفيفة .. وقال وهو يدقق النظر فى وجهى :
ـ لقد مضت سنون .. فاعذرنى إن أنكرتك ..
فرحبت به وأعربت له عن سرورى الزائد بلقائه فى هذه الحفلة وقلت له بعد أن رأيته يجلس فى مكان بعيد عنى :
ـ سنتقابل فى الاستراحة ..
وجلست فى مقعدى .. ورجعت إلى الوراء أتذكر لقد مضت سنوات حقا .. أكثر من عشرين عاما منذ تركنا المعهد الموسيقى معا .. وذهب كل فى سبيله يشق طريقه فى الحياة .. ولقد فشلنا جميعا كموسيقيين لأننا كنا نتصور أن الموسيقى ملهاة .. ولم تكن جذورها متأصلة فى نفوسنا ..
وكانت الفرقة قد بدأت فى عزف المقطوعة الأولى .. وكان النغم يتجاوب فى جنبات القاعة فيهز النفس ويستغرق الحواس ..
ولما انتهى عزف القطعة وأضيئت الأنوار .. أسرعت إلى حيث يجلس صاحبى " أمين " .. وخرجنا من القاعة وأخذنا نتمشى فى البهو ونتحدث عن السيمفونية الناقصة لشوبير .. والسيمفونية الخامسة لبيتهوفن التى ستعزف الفرقة قطعة منها فى هذه الليلة .. ثم تحدثنا عن استراوس وتلميذه كراوس أستاذ الفرقة التى ستعزف الآن ..
وقلت لصاحبى وأنا أمازحه :
ـ لقد كنت المايسترو لفرقتنا .. ولعلك لو مضيت فى الطريق لأصبحت كراوس آخر من طراز هذا الكراوس ..!
فنظر إلىّ وقد غامت عيناه قليلا وقال وهو يشير إلى ذراعه اليمنى :
ـ ولكن المايسترو لا يستطيع أن يقود الفرقة بيده اليسرى ..
فنظرت إلى ذراعه اليمنى المتدلية بجانبه .. وصعقت من هول الصدمة وأدركت لماذا سلم علىّ بيده اليسرى .. فقد كانت ذراعه اليمنى مشلولة تماما .. ميتة لا حراك لها ولم أتبين ذلك إلا بعد أن حركت أشجانه وحز فى نفسى الأسى .. فحولت مجرى الحديث إلى شىء آخر غير الموسيقى .. ولكننى كنت قد نكأت الجرح فأخذ ينزف ولم يكن إلى وقفه من سبيل ..
فقد رأيت وجهه يعلوه الأسى وتكاد عيناه تدمعان ..
فأمسكت بذراعه وأشرت إلى مقعد خال فى البهو وقلت فى صوت هادىء :
ـ تعال نجلس .. وندخن لأن التدخين ممنوع فى داخل القاعة ..
وجلسنا .. وأشعلت له سيجارة .. ورأيت الدخان الأزرق يتصاعد ملتويا ..
وسألنى وهو ينفض الرماد :
ـ ماذا تفعل الآن ..؟
ـ لا شىء ..
ـ متعطل ..؟
ـ لقد تركت الموسيقى إلى الرسم ..
وأنا أرسم الآن بعض اللوحات وأعرضها ولكن من الذى يشترى ..؟ أنت تعرف قيمة الفن فى هذا البلد ..!
ـ هذا جميل ..
وسألته وأنا أنظر إلى جانب وجهه :
ـ وأنت ..؟
ـ إننى أعيش فى ضاحية من ضواحى القاهرة " الكوم الأخضر " فى الهرم .. وسط المزارع .. وكأننى فى الريف ..
ـ أتزرع ..؟
ـ شيئا أشبه بذلك .. ولقد سمعت عن الفلهارمونيك .. وجئت لأراها الليلة .. وسأعود بعد الحفلة إلى بيتى ..
ـ ألا تبقى معى الليلة فى القاهرة وتعود غدا ..؟
ـ آسف جدا .. فأعصابى لا تحتمل جو القاهرة ساعة واحدة اعذرنى ..
ودق الجرس فنهضنا ..
وتقدم أمامى صاعدا الدرج ولاحظت ذراعه المشلولة جيدا وقد ألقيت بجانبه كشىء ليس من جسمه .. ورجعت أتذكره منذ عشرين عاما عندما كان يقف على المنصة فى مكان المايسترو .. ويمسك بالعصاالصغيرة ويقود فرقتنا المكونة من ثلاثة عشر غلاما فى سن المراهقة .. وكان الحماس يبلغ به أشده .. ويتصور أنه يقود فرقة كاملة مكونة من مائة عازف فيهتز جسمه كله وتتحرك ذراعه فى الهواء وتلتمع عيناه .. ويبدو شعره فى نهاية العزف منفوشا .. ووجهه محمرا كأنه خارج من ساحة معركة ..
لم يكن هناك من هو أشد منه حماسة للموسيقى .. وكنا نسميه جميعا المايسترو .. ونسينا أن اسمه " أمين " وكان يقول لنا إنه سيسافر إلى الخارج بعد أن يتم دراسته فى المعهد ليدرس الموسيقى فى معاهد فينا على أساتذتها الأفذاذ .. وكان كل شىء يدل على أنه سيفعل ذلك ..
وعندما حرك كراوس عصاه السحرية ولوح بها للفرقة وابتدأ النغم العذب يهز المشاعر ويحرك شجوننا .. تصورته واقفا هناك كما كنت أقدر له ..
ولما انتهت الحفلة خرجت مع أمين إلى شارع فؤاد .. وسرنا فى الشارع قليلا .. حتى اقتربنا من موقف السيارات الذاهبة إلى الجيزة .. فركب وهو يقول لى :
ـ لا تنس أن تزورنى فى الهرم نصف ساعة بالترام من الجيزة ..
ـ سأزورك قريبا بإذن الله ..
وركب .. وأخذت الترام إلى بيتى ..
***
وفى صباح يوم ضاحك .. فكرت فى زيارة أمين فركبت الترام إلى الهرم .. وسرت فى طريق طويل بين المزارع .. وكان البرسيم على الجانبين يكسو الأرض بالسندس .. والجو صحوا والشمس تبعث الدفء والحياة فى كل الكائنات ..
وبلغت منزله بعد سير طويل وسط الحقول .. وكان المنزل أنيقا مبنيا بالحجر الأبيض ذا طابقين .. وكان يخيم عليه السكون وتحيط به المزارع .. ونوافذه جميعا مغلقة حتى تصورته خاليا من السكان ..
وقرعت الباب .. وسمعت نباح كلب .. ثم حركة فى الداخل .. وانفرج الباب ولاح أمين على العتبة يرتدى ملابس البيت .. واستقبلنى مرحبا وقادنى إلى الداخل ..
وجلست فى غرفة فسيحة تطل على المزارع .. وكان بها بعض الكتب والنوتات الموسيقية .. وبعض الصور الموسيقية لمشاهير الموسيقيين .. وكان بها جرامافون .. وراديو وكان على مكتبه صورة لسيدة فى مقتبل العمر رائعة الحسن جذابة الملامح .. وكتاب مفتوح لم أستطع أن أقرأ عنوانه ..
وكان على مائدة صغيرة زجاجة من الفرنيه وكأس .. فجاء بكأس أخرى ووضعها أمامى وأخذ يصب من الزجاجة .. فقلت له وأنا ابتسم :
ـ أرجو معذرتى فأنا لا أشرب الخمر قط ..
فاستغرب وقال وهو يملأ كأسه :
ـ وأين ذهب الخيام ..؟
ـ إنى كنت أحب شعره فقط وليس مذهبه فى الحياة ..!
ـ إننى أشرب الفرنيه فى الصباح .. لأنه يصلح معدتى .. ويفتح شهيتى للطعام .. وقد اعتدت على ذلك .. سأصنع لك فنجانا من القهوة إذن ..
ـ لا داعى لأن تتعب نفسك .. ودعنا نتحدث ونستمتع بهذا الجو الجميل ..
ـ لا بد من القهوة ..
ومشى إلى المطبخ .. ولم أسمع صوتا ولا حسا فى البيت كله .. فتصورت عائلته قد ذهبت إلى القاهرة لبعض شئونها كما يحدث غالبا لسكان هذه الجهة ..
وعاد بعد قليل يحمل صينية القهوة ..
وشرب فنجانه .. وقال لى مبتسما :
ـ لا بأس بها .. لقد أتقنت صنعها على ما يبدو لى .. فالخادم يذهب إلى السوق فى الصباح ولا يعود إلا متأخرا .. ولهذا أعمل دائما القهوة بنفسى وهذا تسلية لى ..
فمنذ وفاة المرحومة زوجتى وأنا أعيش هنا وحيدا ولا أنيس لى فى هذه الوحدة ..
ولم أكن أتصور أن زوجته ماتت .. وصمت ولم أحر جوابا ..
وتحرك من مكانه وأدار الجرامافون .. وقال :
ـ أتذكر السيمفونية التاسعة لبيتهوفن التى كنا نسمعها معا فى المعهد سأسمعك المقطع الأول منها ..
وأصغيت إلى اللحن الخالد العبقرى بكل جوارحى وقلبى .. وكان النغم يتصاعد فى طبقات الجو إلى السماء .. ليس فى الكائنات ماهو أبدع من هذا ..
ووضع الاسطوانة الأخيرة جانبا .. وقال :
ـ أما زلت تعزف الكمان ..؟
ـ أجل ..
فنهض من مكانه وجاءنى بتلك الآلة الحبيبة إلى نفسى .. فتناولتها وعالجت أوتارها وقوسها ..
ووضع أمامى قطعة موسيقية كتب عليها بخطه :
ـ صراع مع القدر ..
وقال لى وهو يبتسم :
ـ أسمعنى ..
فتناولت القوس وابتدأت فى العزف .. وشعرت بجوارحى تنتفض ورأيت فى النوتة خلقا جديدا ولحنا عبقريا لم أسمع قبله لموسيقى مصرى فى حياتى ..
ولما انتهت القطعة مددت يدى إليه مهنئا ..
وقال وهو يشعل سيجارة .. وقد بدا على وجهه الزهو :
ـ أننى مؤمن بعدالة الله .. وبكل ما يأتى به القدر ..
ولقد أدركت بعد أن شلت ذراعى الشىء الذى كان ينقصنى كفنان ..
الشىء الذى خلق من بيتهوفن أعظم موسيقى فى العالم .. إنه ليس الخمر ولا النساء ولا دراسة الهارمونى .. ولا التمرغ فى النعيم ..
وإنما هو شىء أعظم من هذا كله ..
وصمت قليلا وهو ينفض الرماد ثم استطرد :
ـ تعرف شدة شغفى بالموسيقى .. ولقد تركنا جميعا المعهد فى سنة واحدة .. لأننا شغلنا بالامتحان النهائى للدراسة الثانوية .. ولكننى لم أترك المعهد لهذا السبب .. بل تركته لأننى كنت أعرف أننى لن أتعلم فيه شيئا يحقق آمالى .. قررت أن أسافر إلى فينا بعد امتحان البكالوريا وأقول لوالدى أننى سأدرس الطب .. ولكننى كنت فى الواقع سأذهب لأدرس الموسيقى ..
وسافرت إلى فينا عام 1934 ومكثت هناك عامين وكنت أتقدم فى الدراسة بسرعة مدهشة .. وكانت أوربا فى ذلك الحين تعانى أزمة اقتصادية بالغة وكان الرخص والكساد فى كل مكان فانتهزت فرصة عطلة الدراسة الصيفية وأخذت أجوب الآفاق .. وكانت الرحلة لا تكلفنى إلا القليل ..
أخذت أذرع أوربا غاديا رائحا .. فذهبت إلى بودابست وجورجيو وبخارست .. واستانبول وسمعت موسيقى الغجر .. التى تأخذ بالألباب والبشارف التركية التى تملك الفؤاد .. ورأيت أن كل الشعوب لها موسيقى عظيمة .. عدانا نحن .. فكان قلبى يذوب ألما .. كيف يعيش شعب من أعرق الشعوب فى الحضارة من غير موسيقى .. وكنت أفكر فى سيد درويش وأقول إن هذا الموسيقى كان ولا شك سيبعث الموسيقى ويخلق أعظم شىء لو عاش .. ولكن القدر عاجلة .. وخبا بموته ذلك البصيص من النور الذى كان يلوح فى الأفق .. ورجعنا إلى موسيقى مريضة وألحان مبتذلة .. كنت أرى فى البلاد التى شاهدتها أن الموسيقى تحتل المكان الأول من بين الفنون جميعا فأخذ منى الحماس مبلغه وقلت لنفسى .. لا بد أن نخلق الحانا رائعة ونذيعها على العالم أجمع ..
ولكن القدر عاجلنى بالضربة البكر وأنا فى أول الطريق .. فقد مات والدى ولم يترك لى ما يساعدنى على مواصلة الدراسة من بعده فى هذا البلد الغريب .. فاضطررت أن أعود إلى الديار ..
وكان الكساد عاما والأزمة الاقتصادية تأخذ بخناق الناس .. فلم أستطع أن أكمل تعليمى ففتشت عن عمل .. وبعد تعطل وتشرد وفقت إلى عمل تافه فى بنك من البنوك .. وكنت أعمل طول النهار كالآلة الصماء ..
ولكن حنينى إلى الموسيقى كان يعاودنى من حين إلى حين .. فكنت أحضر كل حفلات الفرق الموسيقية الكبيرة القادمة من الخارج .. وأجلس فى أعلا التياترو وأتحسر وأتألم ..
***
ثم فكرت بعد أن اقتصدت بعض المال أن أواصل دراسة الموسيقى .. وعلمت أن هناك رجلا موسيقيا مغمورا من أصل تركى يسكن فى شارع البستان .. ويعلم الكمان بأجر زهيد .. وهو استاذ بارع .. فذهبت إليه .. وكان يقيم فى شقة صغيرة .. وقد بلغ منه الكبر وفقد زوجته منذ سنين .. وكانت تقوم على خدمته ابنته الوحيدة وهى فتاة فى الخامسة والعشرين من عمرها .. وكانت هادئة صامتة ذات جمال حزين .. وكنت أراها فى كل درس وهى تحمل القهوة إلى والدها .. وكنت أرفع وجهى إلى وجهها فى كل مرة .. وأشعر بارتياح وسرور بالغين ..
ومضت الأيام فازداد تعلقى بها وحبى لها ..
وذات مساء ذهبت إلى الدرس كعادتى فوجدت والدها مريضا .. وكانت نعمات جالسة بجانب سريره حزينة مبتئسه وهى تفكر فيما يجىء به الغد ..
وجلسنا نحن الثلاثة صامتين .. كان الرجل يدير عينيه فى سقف الغرفة ويهذى .. وكانت الفتاة ساكنة مطرقة برأسها تتلقى ضربة القدر فى وجوم ..
وكنت أفكر فى مصيرها .. فى مصير فتاة فقيرة فى فجر أنوثتها .. وشبابها سيقذف بها القدر إلى عرض الطريق .. وأدركت ما سيحدث وأغمضت عينى ..
وقررت أن أفعل شيئا مهما كلفنى الأمر .. وعددت القروش التى فى جيبى وأسرعت إلى أقرب طبيب فى الحى ..
وكشف عليه الطبيب وحدثنى بالإنجليزية .. وكانت الفتاة تنظر إلينا ووجهها مصفرا وشفتاها ترتعشان ..
وأعطيته أجره وخرج .. وعلمت منه أن الرجل سينتهى فى المساء ولا بأس من هذا الدواء كمسكن للألم إلى أن يحين حينه ..
وعندما نزلت لأجىء بالدواء من الصيدلية تعلقت بى نعمات وهى ترتجف .. وقالت :
ـ لا تتركنى وحدى .. إننى أخاف ..
ـ سأعود حالا .. ولن أتركك وحدك أبدا ..
وانتهى الرجل فى صباح اليوم التالى .. وانتقلت نعمات إلى بيتى .. وبعد شهر تزوجتها ..
***
ودفعنى حبى الشديد لها على أن أعمل لاسعادها .. وأجعلها تعيش فى بحبوحة من العيش الرغيد .. فواصلت جهودى فى عملى .. وانتقلت من عمل إلى عمل .. وكافحت كفاح الأبطال وانتصرت .. وأقبلت علىّ الدنيا بوجهها الضاحك .. وجرى بين أناملى الذهب .. فانتقلنا إلى بيت أنيق فى أحسن أحياء القاهرة .. وأصبح لنا سيارة وخدم .. وكنا نصيف فى الإسكندرية ولبنان واستانبول ..
وكانت زوجتى ترتدى أفخر الثياب .. وتتمتع بكل ماتتمتع به الأنثى ولكننى مع هذا كنت ألاحظ أنها تفكر فى شىء ينقصها لتكمل به سعادتها .. كانت تود أن تصبح أما ..
وشاء الله أن يحقق أمنيتها وحملت .. فطارت فرحا .. ولكن إلى حين .. ففى الشهور الأخيرة من الحمل ابتدأت المخاوف والوساوس والأوهام تدور فى رأسها ولا تبارحها ليل بهار ..
وكنت أتنبه فى الليل على صوتها وهى تبكى .. ولما سألتها عن سبب بكائها كانت تطوقنى بذراعيها وتنشج وتنظر إلىّ فى سكون ولا تقول شيئا ولكنى كنت أعرف علة بكائها .. كانت تخاف من الوضع .. وتتوجس منه شرا ..
***
وجاءها المخاض ليلا فحملتها فى سيارة إلى المستشفى .. وقالت لى وهى خارجة من البيت :
ـ أشعر بأننى لن أعود إلى هذا البيت أبدا ..
وكانت عيناها مخضلتين بالدموع ..
وحولت وجهى عنها لأخفى دمعة فى محاجرى .. وهبطنا الدرج صامتين وفى السيارة أخذت أحدثها عن عشرات حالات الولادة التى مرت بسلام .. ولكنها كانت تخاف وتبكى ..
وفى المستشفى كشف عليها الطبيب المختص .. وقال إن الطلق سيأتيها فى آخر الليل وهيأ لها غرفة خاصة .. وتمددت على السرير .. وظللت بجانبها ممسكا بيدها ..
وجاءت الممرضة لتعطيها بعض الحقن وتغير ملابسها .. فخرجت من الغرفة .. ولما رجعت إليها وقع نظرى على رقم السرير وكنت لم أره من قبل وكان رقم 13 فهبط قلبى بين ضلوعى ..
ولما اقترب ميعاد الوضع حملوها على عربة صغيرة إلى حجرة الولادة .. ومشيت بجانبها .. ويدى اليمنى تمسك بيدها .. وسرنا فى ممر المستشفى الطويل وأنا ممسك بها .. وكانت تقول لى بصوت خافت :
ـ لا تتركنى وحدى ..
فكنت أطمئنها وأضغط على يدها ..
وأمام غرفة الولادة وقفت العربة وفتح الباب ..
فقالت وهى تشد على يدى :
ـ لا تتركنى وحدى ..
ونظرت إلىّ الممرضة .. فتركت يدها .. ودفع الممرضات العربة إلى الداخل .. وأغلق الباب وبقيت وحدى ..
***
وكانت ساعة المستشفى قد اقتربت من الثانية صباحا .. فأخذت أذرع الممشى وحدى .. وكان السكون يخيم .. وكنت أتمشى وأعود وأقف على باب الغرفة وأتسمع فأسمع الطبيب وهو يحادث الممرضات .. وأنظر إلى الساعة المعلقة فى نهاية الممر .. وأتصور .. وأود أن أحمل أشعة إكس لتنفذ إلى ما وراء الجدران .. وأرى نعمات المسكينة وهى تتألم ..
وكنت فى حالة من التوتر العصبى لا تصور .. ولكنى كنت كلما وضعت أذنى على الباب وسمعت صوتها وهى تتوجع كان يعاودنى الاطمئنان .. فأسير فى الممشى داعيا إلى الله أن يتولاها برعايته ..
وكنت أود أن أكون أول من يسمع الصوت الحبيب الذى تحبه والذى جاءت إلى المستشفى من أجله .. وهو صرخة الطفل الوليد ..
وبلغت الساعة الثالثة صباحا .. وبلغ منى القلق منتهاه فوقفت مسمرا على الباب فقد ماتت رجلاى وكل حركة فى جسمى ..
ولم يكن هناك من أتحدث إليه .. وكنت أود أن أعطى أى إنسان كل ما أملك فى سبيل أن يحادثنى فى تلك الساعة المعذبة دقيقة واحدة ..
كان الصمت والسكون اللذان يخيمان على المستشفى يطيران بلبى ..
ووضعت أذنى على الباب وتسمعت فلم أسمع صوت نعمات فى هذه المرة .. لقد انقطع صوت الأنين .. فماذا جرى .. كان سكون القبر يطالعنى فى كل مكان .. فدفعت بقبضتى الباب .. ولكنه كان موصدا .. فهززته وصرخت .. وانفتح الباب وطالعنى وجه الطبيب الصامت .. وحبات العرق على جبينه .. ونظرت إلى نعمات المسجاة على الطاولة وكان وجهها ساكنا أبيض ..
وكان بجوارها هناك شىء صغير قد مزقته آلة الطبيب .. وكان فلذة كبدها ..
واقتربت من نعمات وأنا صامت مذهول من وقع الصدمة .. ووضعت فمى على جبينها وكان باردا كالثلج ..!
***
ولما خرجت من المستشفى فى الصباح .. وسرت وراء النعش .. حاولت أن أحرك ذراعى اليمنى فلم أستطع .. كانت قد شلت كلها ..
كنت أتصورها أنها لا تزال ممسكة بيدى اليمنى وقائلة لى بصوت خافت :
" لا تتركنى وحدى .. "
ولقد عرفت بعد هذا الشىء العظيم الذى كان ينقصنى .. الشىء الذى يخلق الفنان المبدع ..
======================== 
نشرت القصة فى كتاب " حدث ذات ليلة " سنة 1953
========================   
    
        




  




فهرس

اسم القصـــــة                         رقم الصفحة

اللهب الأحمر       ............................   2
بنسيون منيرفا        .........................    12
المعجزة     .........         ..... ............. 17
ليلة رهيبة             .............  ..........   22
حلاق للسيدات     ............    ..  ...... .    27
طبيب المركز           ......................    31
بيت الأشجان        ...........................   42
الزوجة العصرية   .................       ...    50
صالح العمل   ............................  ....  55
عندما تحب النساء  ............................    58
فى منزل المقامر      ..........  .............    62
سارق النساء        ........................       67
حدث ذات ليلة        ........................     73
المايسترو     ................................     81